كتب: محمد فتحي
الفن الجميل يفتح امامك مساحات نبض حية، و أفاق رحبة تكون معه كأنك جالس تتأمل صفحة ماء بحر أو نهر جار، ترى سطحه المتحرك فترحل معه أو يرحل بك إلى عوالمه التي تنطلق فيها أخيلتك، رحلة وجدتني في لجها مع نهر الفن المتدفق وردي، و أنا أتصفح كتاب فنه و حياته و نشأته، في رحلة إلى القرية السودانية “صواردة”، حيث مسقط راسه، رحلة أسميتها بـ(الصورة )لأن الصورة لا تكذب، و كما وثّق وردي جمال الريف السوداني بتصوير مسموع، تكفلت ومضة كاميرا الفنان رمزي عثمان في محاورة المجتمع و الفن من خلال الفوتوغرافيا في تلك المناطق .
و أنا أهِم بركوب البص السفري المتجه لهنالك، تمثلت أمامي نفحة الشاعر جوته القائل :
من أراد أن يفهم الشعر
فليذهب إلى بلد الشعر
و من أراد أن يفهم الشاعر
فليذهب إلى بلد الشاعر
إن هذه الدعوة تلخص وتعطي ملمحا مضيئا عن رحلتي، فوردي شاعر أيضا نثر درر من قصائد بالنوبية، وتغنى بها مطربا الجميع هنالك، لكن ما يهمنا في رحلتي ليست شاعرية وردي ولا فنه، بل تكوينه الفني، أي البيئة التي خلقت من وردي فنانا … بيئة ما فتئت تنجب مبدعين، وردي، كبوش، المصور العالمي رمزي عثمان، والقائمة تطول، لتضعك أمام تساؤل عن سر ذلك التفرد.
صواردة، نلوة، صادنقا، كل تلك الأمكنة من قرى السودان في شماله، شكلت مزاج وشخصية فنانين إرتقو بذوقنا وثقافتنا البصرية … فالزائر لتلك الأماكن يتخيل أنه أمام لوحة فنية.
صواردة قرية تحمل للقادمين إليها دهشة ريشة فنان تشكيلي في رسم أنثى ممشوقة القوام، كل شيء فيها تنطق فنا وجمالا.
جزر وجنائن نخيل وبيوت، كلها أماكن تحكي عن عبقرية إنسان كلما قُهر ودُمّر وهُمّش نثر فكرا وإبداعا وثقافة وتسامحا وجمالا.
أماكن تضعك أمام لوحة فنية تعقد حاجب الدهشة، تكفلت ومضة كاميرا المصور العالمي رمزي عثمان أحد أبناء المنطقة بتخليد كل لحظة من عمر زمان تلك المنطقة.
فرمزي هنالك يمثل إسما بارزا في مجال محاورة المجتمع والفن من خلال الفوتوغرافيا، حيث يشرك منذ سنين فئات إجتماعية مهمشة طيلة عمر الحكومات الوطنية في أعمال تصويرية، أطفال، نساء، رجال، شباب وطبيعة أيضا.
فالمتابع لهذا الرجل السبعيني المهموم بقضايا تلك المناطق من السودان يرى أن الصورة لديه عبارة عن لحظات زمنية مكثفة يريد أن يقبض عليها قبل أن تصبح ذكريات.
صندوق ذكرياته تلك شنطة مزينة بالصور، صور شخصية أو لمناسبات أو لدول قام بزيارتها من قبل، أو لطبيعة المنطقة وأثار تلك الحضارة الإنسانية التي تحتفي بها الإنسانية جمعاء، أثار الحضارة النوبية التي تتعرض للسرقة على مسمع ومرأى الجهات المسئولة هنالك.
تجولت مع رمزي في كثير من المناطق الأثرية هنالك، من ضمنها منطقة صادنقا الأثرية شمال قرية نلوة التي تتبع لوحدة عبري الإدارية، فالزائر لتلك المنطقة لا تغفل عيناه تلك القطعة الأثرية المهملة المتناثرة دون حراسة للقرية الاثرية، ما جعلها عرضة لكثير من السرقات، كما يؤكد أهالي المنطقة والناشط النوبي والمصور العالمي رمزي الذي وثق لكثير من حالات السرقة بالصورة.
والمفجع حقا أن تلك القرية الأثرية التي تقع في مساحة (3) كيلو مترات على امتداد قرى قبة سليم ونلوة، دون حراسة أمنية، ومما زاد من دهشة الأهالي وإمتعاصهم الشركة التي تهد الجبال على امتداد القرية في نهم شديد بأسطول من البلدوزرات، فأصبح سكان تلك القري على هول صدمة بأن حرم القرية الأثرية التي لم تتم فيها اي مسح أثري من قبل صدقت لتلك الشركة من قبل السلطات الإدارية بعبري لتعمل في التنقيب عن الذهب.
فكثير من الناشطين في مجال حماية الأثار أكدوا أن المنطقة التي تعمل بها الشركة المعنية منطقة أثرية، واتهموا السلطات المحلية بأنها غير مبالية بأمر الأثار.
و أكد الأهالي أنهم أبلغوا المحلية و إدارة الأثار بالولاية الشمالية و لكنهم لم يجدوا أذان صاغية لتلك القضية .
وعلى بعد خمس أمتار من تلك المنطقة بمحاذاة الطريق الأسفلتي الذي يربط دنقلا ومناطق غرب عبري، تقع منطقة أثرية أخرى سرقت من قبل تبين القطع بحرفية عالية لمدخل القرية، ما يؤكد اتهام الأهالي بأن المنطقة التي تعمل فيها تلك الشركة في التنقيب أثرية.
و لكن كانت صدمتي أكبر عندما قمنا بزيارة لمنطقة أثرية أخري تبعد من قرية صادنقا الأثرية مسافة 2كيلو متر جنوب قرية نلوة و شمال قرية صلب الأثرية تسمى (شيشي خليل) على شاطىء النيل .
فتلك المنطقة تجسد حال الأماكن الأثرية بشمال السودان، قرية أثرية دمرت بالكامل، تعكس حالها أنها تعرضت لهجمة شرسة من ذو القلوب الضعيفة في ظل غياب كامل أيضا للتأمين الشرطي، نبش للمدافن التاريخية، سرقة، وتكسير ما تبقى من الأثار على حد قول رمزي.
كل تلك المآسي لهذه الحقبة المشرقة من تاريخ السودان يخلدها رمزي في ألبوم خاص لمواجع تلك المنطقة .
ونحن نفارق تلك المنطقة إلى صواردة، إرتسمت علامات حزن في وجه محدثي عجز معه الحديث، عكس ما كان عليه من قبل وهو يحكي لي مفاتن طبيعة المنطقة، ودخل في صمت يغلفها زفرات أسي لما أصاب الأثار.
وصلنا صواردة و قد ساد الصمت بيننا، كالسكون على تلك الشاطئ، إلا من وشوشات أمواج آتية من حيث لا أدري، ترتمي على رماله التي تمتصها و كأنها تطبع على الشط قبلة آتية من أفق النيل، من شيشي خليل، إرو و جزرها .. من (صلب)، من جزيرة أوشبة، قبلة كأنها أتت لتستريح على شاطىء صواردة، الشاطئ الذي يسكنه السكون، ويحلم به الشعر وتتغذى من ألوانه العيون، ليعطي إنسان المنطقة غذاء روحيا، وإحساسا بكل ما في الحياة و الطبيعة، و الإنسان يصل إلى فهم الحياة و التعرف على أسرار جمالها، هو ذاك الإنسان المثالي، لان الفن لا يحيا إلا في الحياة و جوهر الحياة الطبيعة المتمثلة بأشجارها، جبالها، سهولها، نيلها، ناسها، حيواناتها، أزهارها، أشواكها، فرحها و حزنها، نهارها، ليلها، نورها و ظلماتها.
كل هذا .. وأكثر.. هي الطبيعة في الريف السوداني التي تفرخ لنا مبدعين دائما يسمون بنا لنرى معنى الجمال (جمال الحياة).