الخرطوم: نبيل صالح
ليس من السهولة الوصول إلى معلومات عن (إمبراطورية السوق الموازي للعملات الأجنبية ) بالخرطوم العاصمة السودانية أو سبر أغوارها، لما يحيط بها من سرية صارمة رغم انتشار باعة الورقة الخضراء وهم يعرضون بضاعتهم في عرض الشوارع الرئيسية وسط السوق العربي، أكبر أسواق الخرطوم. بيد أن هذه الشبكة الضخمة، حسب المعلومات الشحيحة المتوفرة عنها، يديرها رجال أعمال وأسر اشتهرت بهذا النوع من النشاط ، ولدى هذه الشبكة تحوطات أمنية تصل أحياناً لدرجة 100% .
ويتوزع شباب في مختلف الأعمار في أسواق وطرقات الخرطوم ، يعرضون بضاعتهم بعبارة “صرف..صرف”، قبل أن تنتظم حملات أمنية لتوقيف التجار الصغار أو كما يطلق عليهم محلياً بالـ(السريحة ) ويتلاشى هذا المشهد من شوارع الخرطوم تدريجياً غير أن التجار اتخذوا أساليب أخرى لتفادي الحملات حيث يقوم وسطاء السوق الموازي باستصحاب الراغبين في البيع أو الشراء في حذر إلى مكاتب إلى داخل مكاتب تدار بظاهرها أنشطة لا علاقة لها بالدولار لتكملة عملية البيع أو الشراء. ولمزيد من الاحترازات الأمنية من قبل بعض هؤلاء الوسطاء يطلبون من البائع أو المشتري البقاء بعيداً عن موقع المعاملة الحقيقي ، ويدلفون إليه حيث الخزينة في مكاتب بمنطقة السوق العربي التجارية لإكمال المعاملة بعيداً عن الزبون بينما هناك مكاتب تعمل في هذا المجال جهاراً دون مواربة ، رغم حالة الحذر التي يتخذها هؤلاء الوسطاء( وفي الأصل ليسوا أصحاب المال الحقيقيون ) .. وإيهام الزبائن بأن العملية تشوبها مخاطر أمنية كبيرة، إلا أن هذا الاحساس يتلاشى بدخول الشخص الى بعض هذه المكاتب التي يتجول فيها العاملون داخلها بأكياس ممتلئة عن آخرها بتشكيلات مختلفة من العملات المحلية والأجنبية. ويدير هؤلاء العاملون هذه المكاتب بنظام دقيق ، تعتقد من الوهلة الأولى بأنك داخل صرافة أو بنك ، وتتم صفقات بيع وشراء بالدولار. وبالخارج تزدحم أزقة هذه البنايات بالراغبين في شراء عملات أجنبية ، أو تجار الشنطة ، أو من يريد أن يحفظ ماله من العملة السودانية والمضاربة أو الحصول علي العملة الأجنبية بغرض السفر للعلاج بالخارج.
هذه الشبكة الضخمة، حسب المعلومات التي تحصلت عليها (آفرو شونقر)، تديرها شخصيات ذات نفوذ ومال. ويقول صغار التجار الذين يتعاملون مع السوق الموازي للعملة في السودان أن هناك أسرة مشهورة تقطن بشرق النيل شرقي الخرطوم هي من تسيطر علي هذه السوق ، ويعمل كل أبنائها في مختلف ولايات السودان وخارج السودان. وباتت هذه الأسرة المشهورة توازي في تعاملها في العملة الأجنبية منظومة بنك السودان المركزي ، بيد أن احتياطيها من النقد الأجنبي يفوق احتياطي البنك المركزي. وقال أحد المتعاملين والمقربين لهذه الأسرة لـ(آفرو شونقر) أن أكثر من 50% من جملة المتوفر من الدولار في السوق السوداني يخص عائلة واحدة . وتمدد نفوذ هذه الأسرة في تجارة العملة داخل السودان ، وبات لهم مكاتب للتحاويل بسعر السوق الموازي بالخارج ، ويعتقد البعض أن دبي هي مركز الشبكة حيث يقوم المغتربون بتحويل أموالهم عبر مكتب دبي الي السودان. وحسب المعلومات التي تحصلت عليها(آفروشنقر) ، أن بعض مؤسسات الحكومة السابقة كانت تقوم بشراء حاجتها من العملة الأجنبية من هذه الأسرة حتى بعد رفع العقوبات الأمريكية عن السودان .
هذه السوق التي بات يتضخم بفعل سياسات النظام السابق ، تمكنت من السيطرة علي العملة الأجنبية حسب موظف بأحد البنوك الحكومية بالخرطوم ، ويقول الموظف بأنهم باتوا في حيرة من أمرهم من طريقة تعامل السلطات الاقتصادية مع هؤلاء التجار وأغلبهم من العائلة التي تشتهر بهذا النشاط و سيطروا بشكل غريب علي سوق العملة الأجنبية ـ ومضى بقوله بأن البنك نفسه يلجأ أحياناً إلى تجار السوق الأسود ، لتوفير العملة الأجنبية لمشاريعه .
عودة السوق الأسود
الشاهد أن دخول عائدات النفط في بدايات العام منذ العام 2002 الى 2005، وفرت احتياطياً جيداً من العملات الأجنبية وأصبحت هذه الايرادات كافية لتمويل استيرادات البلاد، واختفت تجارة سوق الدولار نسبياً. لكن هذه التجارة تحركت بنشاط بعد انفصال دولة جنوب السودان، ليشهد سعر الدولار من بعد قفزات كبيرة بدأت من 2.5 في العام 2007م إلى أن وصل الآن 95جنيهاً سودانياً للدولار الواحد في بداية الأسبوع الجاري .
أحد المتعاملين في تجارة العملات الأجنبية، ، السوق الموازي، ذكر بأن السوق الموازي ركيزة اقتصاد البلاد نظراً للسيولة التي بحوزتهم وقدرتهم على تغطية احتياجات الاستيردات في كافة القطاعات”.. وأضاف” نحن الأكثر تأثيراً على اقتصاد البلاد والأكثر استعداداً لتغطية مطلوبات السوق بشكلٍ سريع.”
وقال مصدر مصرفي، طلب حجب اسمه ، أن الحكومة السابقة كانت تشتري وتبيع في السوق ‘الأسود’ ضمن السياسة التي كانت تنتهجها مؤسسات عديدة، وهذه المؤسسات كانت موجودة في السوق الموازي بنسبة كبيرة قد تتجاوز الـ (60%) وهذه التعاملات شبه الرسمية بين جهات حكومية قبل سقوط النظام السابق وتجار العملة مكنت تجار النقد الأجنبي من التأثير على العملية الاقتصادية بالبلاد وأكسبتهم شرعية تضاف إليها وفرة العملات في خزائن هؤلاء التجار والتي تغطي حاجة السوق. ومضى بقوله إن العمليات التي تقوم بها السلطات في الغالب تكون في حالة فقدان الحكومة السيطرة على بعض التجار، أو بسبب حركة غير عادية للدولار في السوق بسبب ضخ كميات مجهولة المصدر، ليتم السيطرة المطلقة.
ويقول أحد منسوبي الكيانات المرتبطة بالاستيراد والتصدير إن السوق الموازي يتحكم في مجمل العملية الاقتصادية في البلاد، و يرى الرجل أن تجار العملة تحولوا إلى كتلة اقتصادية مؤثرة.
الحكومة السودانية،وفق تصريحات وزير ماليتها إبراهيم البدوي، تعتمد بشكل كلي على دعم بعض الدول العربية في استيراد السلع الضرورية كالدقيق والمحروقات، ييد أنها تقر بعدم قدرة الدولة على توفير احتياطي للنقد الأجنبي لضعف الصادر ، وتعتمد كلياً على الودائع والهبات في المرحلة الحالية. وتعول الحكومة على مؤتمر أصدقاء السودان المزمع انعقاده في مارس القادم لدعمها ، بيد أنها استغنت عن التمويل الذي وعد به البنك الدولي حال التزامها بشروط من بينها رفع الدعم عن السلع بعد رفض مكونات من الائتلاف الحاكم رفع الدعم في موازنة 2020م وعادت السلطات السودانية إلى استخدام الحلول الأمنية للحد من تراجع قيمة العملة المحلية أمام الدولار إلا أن هذه الطريقة لم تفلح واستمر تصاعد سعر الصرف بمتوالية هندسية وتجاوزت محطة الـ95 جنيهاً.
غير أن الحلول الأمنية لن تأتي بنتيجة إيجابية ،حسب عز الدين إبراهيم وزير دولة سابق بوزارة المالية السودانية، حيث يجزم ابراهيم بأن استقرار العملة السودانية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتطوير الصادر وليس بمطاردة تجار العملة. وأضاف أن السوق الموازي سيتلاشى تلقائياً إذا توفر احتياطي للنقد الأجنبي للبنك المركزي ، مشيرًا إلى أن التضييق على السوق الموازي قد يخلق مزيداً من الأزمات في السلع لجهة أن أغلب الموردين لهذه السلع ومدخلات إنتاجها يعتمدون على السوق الأسود في الحصول على الدولار. وقال إبراهيم لـ(آفرو شونقر ) إن الوقت ما زال مبكراً لمعالجة مشكلة تراجع قيمة العملة المحلية ،خاصة أن النظام السابق خلف تركة من التعقيدات الاقتصادية بسبب سياساته النقدية الفاشلة، مؤكداً أن الحل يكمن في الاهتمام بالإنتاج والإنتاجية ، والصناعات التحويلية والسودان ما زال يعتمد على الهبات والودائع. ونصح إبراهيم الحكومة السودانية بعدم الاعتماد على مؤتمر الأصدقاء والتحوط ببدائل تقي العملة المحلية من المزيد من الانهيار بالاستفادة من مدخرات المغتربين والإدارة الرشيدة للموارد المتوفرة وتشجيع الصادر.