بروفايل: أفروشنقر
يعتبر السودانيون الراحل الشيخ مصطفى الأمين رائداً لـ(الرأسمالية الوطنية). بدأ حياته التجارية من الصفر، ووصل ليصيح أغنى رجل في تاريخ السودان الحديث وأبرز المنارات السامقة في سماء الأعمال في السودان .
لم يتلق الشيخ مصطفى الأمين تعليما نظامياً، ولكنه تعلّم في مدرسة الحياة الكبرى ونال شهادة الأعمال،بالصدق والأمانة و الأعمال الخيرة.
(الشيخ مصطفى الأمين من الغبشة إلى هامبرج) يعتبر أكبر الأسفار التى وثقت لتجربة الراحل رغماً عن عشرات المدونات التى تناولت سيرته الباذخة . الكتاب تولى بإعداده الأستاذان المخضرمان الراحل الدكتور محمد سعيد القدال والدكتور عاطف عبد الرحمن صغيرون.. ويعتبر الكتاب وثيقة تاريخية مهمة عن شخصية وطنية مهمة في عالم الاقتصاد السوداني.
مولده ونشأته:
بلاد الجعليين، لها تاريخ مجيد من بين مناطق السودان المختلفة، وفي ربوعها في منطقة المتمة بالتحديد، كان ميلاد الشيخ مصطفى الأمين في عام 1889 م.
نشأ الشيخ مصطفى الأمين في منطقة (البلو) مقر قبيلة الجعليين، في حوش خاله (عوض الكريم أبو نخيلة) الذي أصيب في موقعة أبوطليح بين البريطانيين وجيش المهدي في السودان في17 يناير 1885م. وأبو طليح هي استراحة للقوافل العابرة لصحراء بيوضة بالسودان في الطريق بين مروي والمتمة، وهي على بعد 32 كم شمال النيل من المتمة. وخسائر البريطانيين في المعركة أقنعت الإنجليز بالانسحاب من السودان، الأمر الذي فتح الطريق لانتصار الثورة المهدية. ويرجع أصل الشيخ مصطفى الأمين إلى فرع المحمداب من جهة جده المك محمد (مك الجعليين) ويرجع كذلك إلى الجعليين المسلمية من جهة جده المك (بشير ود عقيد) آخر مك للجعليين. فقد والده وهو فى الثامنة من عمره.
من المتمة إلى كردفان:
لم يكن التعليم النظامي متوفراً في تلك الفترة إلا في حدود ضيقة، وفي مناطق بعينها، ومن هنا كان من الطبيعي أن يتجه منذ صغره للعمل في الزراعة وتربية الحيوان، ثم يغادر المتمة في عام 1908 م، مغاضباً عمه، تاركاً ورثة أبيه لوالدته وإخوته. شاباً لا يملك مالاً، ولكنه يمتلك ما هو أقوى وأهم من المال: طموح الشباب في أن يبني مستقبله عبر الكفاح المرير. وكانت التجارة هي المهنة المتاحة أمامه أو أن يكون عاملاً، وبالفعل التحق بالعمل في السكة حديد لفترة من الزمن، وتركها ليعمل في التجارة ما بين أبو حمد وحلفا، ثم اتجه إلى الخرطوم، ومنها إلى شرق كردفان: مثلث الغبشة، شركيلا، أم روابة.
في تلك المنطقة عمل الشيخ مصطفى الأمين في مجال الزراعة المطرية لفترة قصيرة في منطقة الحريزية التي تقع بين الغبشة وود عشانا (منطقة شرق شركيلا).. وكان خط السكة حديد يمر بودعشانا.. الغبشة.. أم روابة.. بينما تقع شركيلا جنوب أم روابة مباشرة، ولا يمر بها خط السكة حديد، ويفصلها عن الغبشة خور أبو حبل لعدة شهور قبل أن يجف، فتصبح الطريق سالكة. وفي بلدة شركيلا قام بفتح محل تجاري صغير، وكانت شركيلا في تلك الفترة مشهورة بإنتاج القرض والجلود وعسل النحل وفي نفس الوقت بالزراعة المطرية والإنتاج الوفير للحبوب الزيتية: الفول والسمسم بالتحديد، بالإضافة إلى الذرة.. ويمثل مثلث أم روابة شركيلا الغبشة منطقة هامة ترد إليها المحاصيل من القرى المجاورة. وتشتهر تلك المنطقة بمعاصر الزيوت التقليدية التي تعتمد على (الجِمال).
اتجه الشيخ مصطفى الأمين للتجارة في المحاصيل، وبخاصة الحبوب الزيتية، وكان الفول السوداني بالتحديد من أهم تلك المحاصيل بجانب السمسم، فعمل على شراء الفول وبيعه لأصحاب عصارات الزيوت التقليدية، ثم انتقل لامتلاك القشارات في منطقة الغبشة.
من التجارة الداخلية إلى الصادر:
في عام 1925 م حقق نقلة مهمة في تجارته، إذ اتجه للاستفادة من الإنتاج الوفير في المنطقة في التصدير، فقام بتصدير الذرة إلى مصر، حيث يعاد تصديرها من هناك إلى أوربا، ولم يعد يكتفي بالعمل بعد ذلك في كردفان، إنما فكر في ميناء السودان: مدينة بورتسودان التي تمثل ثغر السودان في تجارته الخارجية، فأنشأ مصنعاً للزيوت في تلك المدينة بغرض الصادر، وصار أيضاً يقوم بتصدير السمسم إلى فنزويلا ، وكان أيضاً يقوم بتصدير المنتجات السودانية إلى أوربا.. وهو من أكبر مصدري الحبوب الزيتية ومنتجاتها.
معاصر الزيوت:
اتجه الشيخ مصطفى الأمين الى الصناعة، وكانت له أكثر من مائة معصرة بدائية في شركيلا والغبشة، ثم أدخل المعاصر الهيدرولكية الألمانية في الغبشة وانتقل في عام 1958م إلى المعاصر الكهروميكانيكية الإنجليزية التي أنشأها بمدينة بورتسودان الميناء الرئيسي للبلاد ليسهل عليه التصدير. وفي 1976 قام باستجلاب أحدث تقنيات استخلاص الزيوت في العالم عن طريق المذيبات العضوية البلجيكية، فكانت تلك سابقة في تاريخ السودان، وفي 1980 كان أول من صدر الفول السوداني النقي لأمريكا. وهو أول من صدر زغب القطن للمصانع الحربية المصرية، وتصدر قائمة المصدرين فكان المصدر الأول للزيوت إلى مصر من (1964 – 1974) م.
وكان يقوم بتصدير الأمباز والزيت إلى ألمانيا، حيث أصبح له فيها نفوذ كبير، وهذا ما جعله يردد فخراً أن أعماله تمتد من الغبشة إلى هامبورغ (شعاره الشخصي).
التصنيع المتكامل:
شيد الشيخ مصطفى الأمين عام 1980 م أكبر مجمع صناعي خدمي متكامل في الشرق الأوسط وأفريقيا، مجمع (أبا المعتصم) في مساحة قدرها 78 فداناً وذلك بالباقير جنوب الخرطوم، ويتكون من (13) وحدة إنتاجية متكاملة تشمل الصابون بأنواعه المختلفة، بالإضافة إلى القشارات ومعاصر الزيوت، ويضم المجمع أيضاً صناعة الكرتون والصفيح والبلاستك، وفي مجال الخدمات قام بإنشاء محطة كهرباء ، وبناء سكن متكامل للخبراء الأجانب والمهندسين والعاملين، حيث استجلب عدداً من الخبراء الأجانب للعمل بالمجمع وتدريب المهندسين والعمال الذين ساهموا في المشروعات القومية. وبعد أن كبر أبناؤه أصبحوا اليد اليمنى التي يعتمد عليها في تنفيذ مخططاته فاعتمد على ابنه الأمين في تسيير العمل بمصانع الباقير التي أصبحت أضخم المجموعات الصناعية.
أعماله في مجال الزراعة:
لم يترك الشيخ مصطفى الأمين مجالاً لم يطرقه، فبالإضافة إلى التجارة والصناعة والصادر، أنشأ في 1984م أكبر مشروع زراعي مطري في البلاد بعد مشروع الجزيرة في مساحة (نصف مليون) فدان، جنوب النيل الأزرق والقضارف، حيث كان يزرع (الذرة، السمسم، وزهرة الشمس)، وهي كلها أما مواد خام للصناعة (الحبوب الزيتية)، أو للصادر. وكان يزرع مساحات ضخمة في منطقة البطانة وجنوب وشمال القضارف، ويترك جزءاً من إنتاجها للمساكين وساكني القرى والحلاّل التي تقع حول هذه المشاريع تأكل منها من غير مقابل.
أسطول النقل البري:
وبحكم عمله في مجال الصادر، وكثافة إنتاجيته في مجال الزراعة والصناعة، كان من الطبيعي أن يفكر في بناء أسطول للنقل، وذلك ليخلق التكامل بين مشروعاته المختلفة، وبالفعل قام بإنشاء ذلك الأسطول، ليمكنه من نقل منتجاته الزراعية والصناعية، وربط مناطق الزراعة بمناطق الصناعة وموانئ التصدير.
مساهمته في تأسيس البنوك:
ساهم الشيخ مصطفى الأمين في تأسيس العديد من البنوك منها البنك التجاري الذي أصبح البنك العالمي للاستثمار، ثم البنك السوداني الفرنسي، وكذلك البنك السعودي السوداني.
في مجال تنظيمات العمل:
كان شيخاً لتجار الجملة ، ونال عضوية أول غرفة تجارية ضمت في عضويتها كبار التجار الأجانب والسودانيين في فترة ما قبل الاستقلال.
اهتمامه بالتعليم والصحة والمساجد وأعمال الخير:
بما أن التعليم الأهلي كان وسيلة قد ابتدعها السودانيون منذ تأسيس مؤتمر الخريجين ليشكل وسيلة لتوسيع التعليم الذي ضيق المستعمر مساحته، أقدم الشيخ مصطفى الأمين في عام 1944 م على تأسيس مدرسة الخرطوم الأهلية مع عدد من التجار، وملحق بها الجامع، وضمن سياسات الدولة في مجال التعليم، تم إلحاق تلك المدرسة في العام 1972م بوزارة التربية والتعليم وتم تغيير اسمها إلى مدرسة الشيخ مصطفى الأمين وأصبحت مدرسة نموذجية في 1997م، ويتم القبول لها من جميع أنحاء البلاد، وهي من المدارس المتفوقة اليوم في السودان.
وكذلك أسس الشيخ مصطفى الأمين المدارس في مسقط رأسه المتمة، وفاءً لأهله، وبنى كذلك المدارس والمساجد والمراكز الصحية بالمتمة والغبشة وبورتسودان وجبال الأنقسنا.
ابن السودان البار:
نال الشيخ مصطفى الأمين التكريم المستحق من الحكومات المتعاقبة والعديد من الأوسمة والأنواط مثل وسام التعليم ووسام ابن السودان البار، وكسوة الشرف، وفي 1984م كرمته جامعة الخرطوم لدوره الكبير في تطوير التعليم والاقتصاد، فمنحته درجة الماجستير الفخري في الآداب.
تُوفي الشيخ مصطفى الأمين في 14/12/1988 م بعد عمر بلغ المائة عام، وتم دفنه فى أحب المواقع إلى نفسه بالسوق العربى بمدرسة الخرطوم الأهلية (مدرسة الشيخ مصطفى الأمين الوقفيه القرآنية الثانوية) بناءً على وصية منه.
نسأل الله له الرحمة والمغفرة والعتق من النار