~ ✍️المعز الخليفة صبير~
قد لا نستغرب إذا ما سمعنا أن نصف الموظفين في شركة ما يشتغلون من قلب بيوتهم وعن بعد مستقبلا وتم الاستغناء عن مكاتبهم!. وقد نسمع أيضاً بأن عددا من المدرسين والمدرسات يلتحقون بصفوف الدرس من على جلساتهم في البيت بدلا من الذهاب إلى المدارس !، ولربما سوف نسمع عن التجول في “المول” أو “الهايبر ماركت” والتبضع عن بعد، مع خدمة التوصيل من على السرير، بدلا من التزاحم بين الأشخاص على أرض الواقع وتكلف عناء الذهاب والإياب أو مشقة المواصلات!. تلك إذاً هي تخيلات بدأت تلوح بوادرها في الأفق في خضم هذه الجائحة.
ربما هي أول مرة في تاريخ البشرية اليوم، يحس فيها أكبر عدد من الناس بفوائد التربية عن بعد(Distance Learning or Home Schooling)، وكذلك مزايا العمل عن بعد (Distance Work or task)، بعد أن جرّبوا السهر على تربية أبنائهم وبناتهم عن كتب، وجربوا أيضاً فوائد العمل عن بعد، وأتيحت لهم فرصة ملئ بطونهم بوجبات من داخل مطبخهم ومن صنع أيديهم في بيوتهم وبين أهلهم وذويهم، عوضا عن الوجبات الخفيفة والمعلبة (Fast Food & Canned Food) في الشوارع والطرقات، والرجوع إلى البيت حتى وقت متأخر من الليل أحياناً تحت ضغوط ظروف العمل أحياناً!.
لم يكن أحداً منا يتخيل أنه في يوم من الأيام سيوضع الآباء والأبناء والمربون والمسئولون تحت محك التجربة الفعلية ويخضعون لمثل تلك التجربة الفريدة من نوعها، وربما لأول مرة ستدرك بعض الأمهات وبعض الآباء مخاطر التسكع في الطرقات والملاهي حتى وقت متأخر من الليل ومدى تأثير تلك العادة السيئة على الأطفال وعلى المجتمع ككل. ومن ناحية أخرى، فقد تظهر الدراسات المستقبلية عن مزايا هذه الطريقة من كسب للوقت والمعارف بالنسبة للمتعلمين، وكذلك عن الآثار الإيجابية الحميدة لتلك الطريقة على سلوك الأطفال بالخصوص وعن سلوك الكبار بصفة عامة أيضاً، بالنظر إلى معاناتهم في التنقل إلى المدارس والازدحام المفرط في الشوارع، ناهيك عن الصعوبة في ضبط أوقات وجبات الفطور والغداء والصلاة والأذكار والعبادة وما إلى ذلك.
ربما، وكما قلت، ستظهر الدراسات المستقبلية نسبة التفوق والقدرة على الاستيعاب لدى الصغار وحتى الكبار في مثل تلك الظروف، كما قد يعطينا المربون والمربيات والمدرسون والمدرسات آرائهم حول سرعة الأبناء في التلقي وإنهاء الواجبات خلال هذه التجربة التي فرضتها الظروف الحالية هذه الأيام.
ومن ناحية العمل عن بعد، فقد تعطينا هذه التجربة وتفرز لنا آراء ومعطيات حول مردودية المستخدمين من خلال فترة هذا الحجر الصحي العابر، ومدى قدرتهم على تأدية العمل عن بعد، فقد تعطينا هذه التجربة وتفرز لنا مدى قدرتهم علي تأدية واجبهم في أوقات وجيزة وبكل أريحية وانشراح من داخل بيوتهم رغم الظروف القاهرة لهذه الوضعية على كل حال.
قد تفرز الدراسات المستقبلية حول الوضع الحالي إذاً أن من شأن العمل عن بعد الرفع من مردودية الأفراد وكذلك دخل الشركات ويخفض من حالات الاكتئاب والقلق والتوتر (Stress) لدى الموظفين من خلال تحاشي الازدحام في الطرقات وفي طرق المواصلات من وإلى مقر العمل، وتحاشي مخاطر الطريق وحوادث السير. ومما لاشك فيه أن تقليل عدد الأفراد في الشوارع والطرقات ومقرات العمل (وكما رأينا هذه الأيام)، من شأنه أن يخفض من نسبة التلوث في الجو وخاصة في المدن والأحياء المزدحمة (وربما حتى في البحر)، ويخفض أيضاً من نسبة التبليغ عن الحوادث والأمراض المعدية والسرقات وكل أشكال العنف والجريمة.
وبما أن العديد من البلدان تعاني أصلاً من مشكلة الاكتظاظ في العديد من المدارس والمؤسسات التعليمية، فإن هذه التجربة ربما قد تفضي مستقبلا إلى التفكير في مجال التعليم عن بعد لبعض المواد التي قد لا تستدعي بالضرورة الحضور إلى المؤسسة التعليمية والمدرسة أو الاكتفاء بتقليل عدد ساعاتها داخل الفصل وتعويضها بساعات من البيت، وخاصة في مجال التعليم الجامعي، مما سيؤدي لا محالة إلى تخفيض نسبة الاكتظاظ في المدرجات كما قلنا، ويساهم في التخفيف من النفقات، ومن حدة الازدحام في الشوارع والطرقات ووسائل النقل.
وفي زمن قد يكون غير بعيد جداً، سيدرك العالم أن الدفع بكل هذه الأعداد الضخمة من البشر إلى مقرات العمل والدراسة في كل صباح ومساء وخاصة في المدن الكبرى، قد يكون هو السبب في انتشار الأمراض المعدية وحالات الكآبة وعدم الراحة النفسية وانتشار العدوى الموسمية والمزمنة والأوبئة بين الناس وبين الشعوب والتقليل من أعمارهم، وأنه هو السبب في عدم منح الأمهات والآباء الوقت الكافي للاعتناء بتربية الأبناء والعيش والتحدث معهم وتناول كل الوجبات معهم (كما كانت الأمم والأجيال سابقاً)، في وقت كان من الممكن تجنب كل تلك المشاكل بتخصيص وتقنين العمل عن بعد لشرائح مختلفة من المجتمع كل على حسب تخصصه، ووضع آليات وقوانين تنظم ذلك، فنكسب بذلك الوقت الوفير ونساهم في توفير المال والجهد والعناء، والأهم من ذلك كله، سوف نساهم في بناء حضارات وأمم منتجة ومسلحة بالعلم والمعرفة والأخلاق النبيلة والسلوك السوي، حضارات وأجيال قوامها الصدق والتقوى والتعايش والتكافل والتسامح والسعادة والطمأنينة والانشراح والسلم والسلامة.