
في الخامس عشر من أكتوبر من كل عام، يقف العالم ليُحيي “اليوم العالمي للمرأة الريفية”، مناسبة أممية تكرّس الاعتراف بالدور المحوري الذي تلعبه النساء في الريف في دعم الاقتصاد، و تعزيز الأمن الغذائي، وحفظ النسيج الاجتماعي، رغم ما يواجهن من تحديات قاسية تبدأ من التهميش الاجتماعي وتنتهي بحرمانهن من أبسط حقوقهن في الملكية والتعليم والرعاية الصحية.
يأتي هذا اليوم وسط تحولات عالمية غير مسبوقة في سوق الغذاء والمناخ والسياسات الزراعية، حيث تؤكد تقارير الأمم المتحدة أن أكثر من ثلاثة أرباع السكان الأشد فقراً في العالم يعيشون في المناطق الريفية، والنساء تشكلن العمود الفقري لهذا الواقع، ومع ذلك لا يصل إليهن سوى جزء ضئيل من الموارد والفرص مقارنة بالرجال.
نساء الريف في قلب الزراعة… وخارج القرار
تشير بيانات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) إلى أن النساء الريفيات يشكّلن نحو 43% من اليد العاملة الزراعية في الدول النامية، وهنّ مسؤولات عن إنتاج وإعداد ما يقارب 60 إلى 80% من الأمن الغذائي في تلك المناطق. ومع ذلك، فإن نسب حصولهن على الأراضي، أو التمويل الزراعي، أو التدريب، أو التكنولوجيا، لا تزال ضئيلة جداً.
ففي أفريقيا؛ حيث أرض الحروب الطويلة والكثيرة غير المنتهية؛ بلاد مثقلة بالجراح والمآسي، وكأنما ورّثتها لنا، نقلب سجل تاريخ حافل بالنضال للمرأة في معركة الحياة، تخوض حروبها صغيرة وتعيشها وحدها؛ حروب لا تعلن ولا ترفع لها راية وإن أحرقت شظايا روحها، لتشِيخ تلك الوجوه السمراء قبل أوانها، لأجساد أُنهكت لكنها ظلت تقاوم بقوة الإيمان، مترقبة إعلان الانتصار وموسم الأفراح وإن طال السفر.
واقع لا يمكن فهمه بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي الذي يشكل البيئة المحيطة بها، فالمرأة العربية ليست بعيدة عن هذا الواقع أيضاً، يبدو المشهد أكثر تعقيداً. ففي حين أن النساء في بعض الدول الريفية يضطلعن بدور قيادي في الزراعة التقليدية وتربية المواشي والصناعات اليدوية، إلا أن ضعف البنية التحتية، وغياب القوانين الداعمة، والأعراف الاجتماعية الصارمة كلها تقف حائلاً أمام تمكين حقيقي لهن.
إذاً هي أيقونة بؤس يقتسمنها بعناية، تعبر عنها أم خديجة، فلاحة من ريف سيدي بوزيد في تونس: “نستيقظ قبل طلوع الشمس، نحرث الأرض ونعتني بالزراعة والمواشي، لكن عند تقسيم الإرث أو الحصول على دعم زراعي، لا يُحسب لنا حساب، كأننا لا شيء”.
الفقر الأنثوي في الريف العربي
يعاني الريف العربي من تفاوتات حادة في التنمية، ويُعدّ الفقر النسائي أحد أبرز تجلياتها. إذ تشير تقارير التنمية إلى أن النساء الريفيات في بعض الدول العربية أكثر عرضة للحرمان من التعليم والرعاية الصحية، ما يجعل من صعودهن الاقتصادي والاجتماعي مهمة شبه مستحيلة.
في اليمن، مثلاً، يعاني أكثر من 75% من سكان الريف من انعدام الأمن الغذائي، وتشكل النساء النسبة الأكبر من الضحايا في ظل الحرب المستمرة. وفي السودان، تتضرر النساء الريفيات بشكل مباشر من النزاعات ونقص الخدمات، ما أدى إلى ارتفاع نسب الوفيات بين الأمهات في المناطق الريفية، بسبب غياب الرعاية الصحية الأساسية.
أما في المغرب، ورغم الجهود الحكومية لتقليص الفوارق، لا تزال المرأة القروية تُواجه صعوبات جمّة في الوصول إلى التعليم الجامعي أو الاندماج في سوق الشغل. فوفق إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط، فإن أكثر من نصف النساء في الوسط القروي أميات، وتصل نسبة النشاط الاقتصادي لديهن إلى أقل من 30%.
التغير المناخي… عبء إضافي على كاهل الريفيات
لم تقف التحديات عند حدود الفقر أو التهميش الاجتماعي، بل أصبح التغير المناخي أزمة مضاعفة تهدد حياة ومعيشة النساء في الريف. فمع تزايد موجات الجفاف والتصحر، وتراجع خصوبة الأراضي، تجد النساء أنفسهن مجبرات على التكيف مع أنظمة إنتاج زراعي أصبحت غير مجدية في كثير من الأحيان.
تقول راوية الشاذلي، خبيرة التنمية الريفية: “النساء في الريف غالباً ما يكنّ أول من يشعر بأثر التغير المناخي، سواء عبر نقص المياه أو ارتفاع درجات الحرارة أو تراجع المحاصيل، وهنّ أقل من يملك أدوات التكيف مثل التكنولوجيا أو القروض الزراعية”.
ويضيف خبراء أن إشراك النساء في سياسات المناخ والزراعة المستدامة، لم يعد خياراً بل ضرورة ملحّة لضمان الأمن الغذائي في المستقبل.
خطوات عربية خجولة نحو التمكين
في العقد الأخير، بدأت بعض الدول العربية تتخذ إجراءات لتحسين وضع المرأة الريفية. ففي المغرب، أطلقت الحكومة عدة برامج لدعم النساء القرويات من خلال التكوين المهني، وتمويل التعاونيات النسائية، وتحسين البنية التحتية.
وفي مصر، وُضعت استراتيجيات لتمكين المرأة الريفية، خصوصاً عبر برنامج “تكافل وكرامة”، الذي ساهم في تخفيف أعباء الفقر عن آلاف الأسر الريفية التي تقودها النساء. كما أنشئت برامج لتدريبهن على الصناعات الغذائية والزراعة الحديثة.
أما في الأردن، فقد ارتفعت نسبة النساء العاملات في التعاونيات الزراعية، بدعم من منظمات دولية ومحلية، وتُعد تجربة “جمعية سيدات الأغوار” نموذجاً ناجحاً في إدماج المرأة في الاقتصاد المحلي.
لكن رغم هذه المبادرات، يرى مراقبون أن التمكين الحقيقي لا يمكن أن يتحقق دون إصلاحات تشريعية ومؤسسية شاملة، تضمن للمرأة الريفية الحق في الأرض، والميراث، والتعليم، والعمل اللائق.
دعوة أممية للعمل الجاد
بمناسبة اليوم العالمي للمرأة الريفية 2025، وجهت الأمم المتحدة دعوة عاجلة إلى الحكومات ومنظمات المجتمع المدني للعمل الجاد على تمكين النساء في المناطق الريفية، مؤكدين أن تحقيق أهداف التنمية المستدامة لن يكون ممكناً بدون إدماج المرأة الريفية في كل مراحل صنع القرار والتنمية.
وأكدت المنظمة في بيانها أن “المرأة الريفية ليست فقط ضحية لعدم المساواة، بل هي فاعل رئيسي في التغيير الاقتصادي والاجتماعي، وينبغي الاستثمار في قدراتها، وتوفير بيئة تمكّنها من الوصول إلى الموارد، والتكنولوجيا، والتعليم، والحماية الاجتماعية”.
الخلاصة: عماد بلا تقدير
إذاً تتوالى السنين وتظل معارك المرأة الريفية منسية، يقتصر على التصريحات والشعارات، بدلاً من أن يتحول إلى سياسات حقيقية، واستثمارات جادة، وتشريعات منصفة، ترد الاعتبار لهذه الفئة التي تحمل على كاهلها عبء الغذاء والتنمية… بصمت، بتبني سياسات قوامها فرص تمكين منصفة، قبل أن يتمكن منها هذا الواقع البائس كداء عضال، ويأس يورث الهزيمة، وضجر مقيت.
