
كأنه مرآة لذاكرة لا تموت، يشكّل حضورا معجوناً بروح المكان، لأن النص الشعري عنده كان وثيقة مقاومة للقهر والتنكيل والتهميش، فمن القهاوي الرابطة في تلك الصحاري القاحلة التي تحد منحنى النيل، إلى “الترابلة” وهم يهِمُون بحراثة الأرض في الجابرية، ثم (نورا والصبيان) في جروف نوري، وعم عبد الرحيم و(زملان الشقا) من العمال في عموم السودان، وحناجر الثوار، يراقب وجه حميد الوطن الذي أحبّه وبادله الحب شعراً.
والزمان مسغبة، وحرب، تظل قصائده زاداً للهائمين في الطرقات والصحاري، لينجو من نيران الحرب التي تأكل الأخضر واليابس، بقلوب مثقلة بالحسرة والخذلان، لتقف في وجه خفافيش الظلام مشتبكاً لا متأمل، ومن زاوية المقاومة لا الحياد، وتشكل امتدادا لذاكرة جماعية تقارع النسيان، وتؤرخ للدم السوداني الذي لا يزال يُسفك على مرأى العالم، فجاء الطنبور ليغسل ذاك الرهق بنغمات كأنها تمتد من ماضٍ سحيق موغل في الورافة وتصورات الشاعر محمد الحسن حميد العجيبة لوطن، لا كلّت مزاميرو ولا ضرب الربابة وهن.
كل الذين كنت تتكلم عنهم بذاك الخشوع العجيب، كمن يصلي، وتُربي فيهم الأمل، لم يفيقوا من وجعة رحيلك بعد يا “حميد”، وإن تطالعك همهمات من عمق الفجيعة، “لعلّه قرر الرحيل في الوقت المناسب، فصعدت روحه لترتاح من كل هذه البشاعة التي تحيط بنا”، وجوه ما زالت تنتظر يوم أن “ترحل هموم، وتنصان دموم، والبال يرتاح”، هذا الحلم العنيد الذي كنت تطارده ردحاً من الزمان، لتُعيد للعدالة معناها، وللكرامة حضورها، وللإنسان مكانه، و”تعافر” ليلبس وطننا ثوب الحياة الزاهي، ويعبر بمسارب ضي “مصابيح الطريق” التي ثبتها بعناية، نحو فجر أبلج، الفجر الذي لطالما كنت تبشر به، وتراه قريباً، حينما كان يراه الآخرون بعيداً، كأن الكتابة عندك كانت حالة كشف وفتح واختراق بصيرة.
لكن كيف نُسكت صوت البنادق يا حميد؟ ومتى يسمو أُمراء الحرب فوق غريزة القهر والخراب، لينتفض وطننا من تحت أنقاض الوجع، وعينه على البناء؟، وتعود “السُرّة بت عوض الكريم” فرِحة، بعد أن كانت تنوم “ممحنة في التميرات القدر فوق راسها ما خمّن سبيط”، وتدعوا بالبركة لسواعد أبنائها، بعد أن كانت تنعل عقوق من أقعدوا بالوطن، وتتنمر على تعليمهم” علمن يطير إن هي ما صلّح عِوج” .
الكلُ في انتظار أن تجد “العِوج” حلها، ليعود التربال ملح الأرض ناثرا الخير، في أرضٍ لطالما اشتكت من الجدب، ويدخل العمال لمصانعهم التي عشعش عليها البوم، وهم ينشدون قصائدك التي صغتها من مواجعهم، وكنت مدافعاً جسوراً مثل نصلٍ وحيد في يد صيادٍ في غابة موحشة.
إيد العامل هي العاد تنتج
مو المكنات الأمريكية
زيت العامل ياهو البطلع .. مو المكنات الأمريكية
ودرن الأيدي العمالية
أنضف من لسنات الفجرة
ودين الدقن الشيطانية
ومن كرفتة البنك الدولي .. وكل وجوه الراسمالية
يقيننا أن الصبح الذي بشرت به آت عن قريب، فالدماء لها لعنة، والأعراض لها حُرمة، ونحن قد مسنا الحلم مرة، فلن نبرح حتى نبلغها، سنستنهض العزائم، ونأبى بحر الدماء ..حتى تسري السلام في ربوع وطننا كالعافية على شفاه الأطفال، حقيقة واقعة، بقدر ما كان حلماً وأمل.
وحتماً: سنظل نحفر في الجدار
اما فتحنا ثغرة للنور
او متنا على وجه الجدار
لا يأس تدركه معاولنا
ولا ملل انكسار
ان اجدبت سحب الربيع
وفات في الصيف القطار
سحب الربيع ربيعنا
حبلى بامطار كثار
ولنا مع الجدب العقيم
محاولات واختبار
وغدا يكون الانتصار













