
حينما توقف فجأة بعد أن كان يوزّع عبقريته الفنية على الأصوت، لم أتمالك نفسي، وطفحت أصيح بكل صوتي للموسيقار اليمني محمد القحوم..أستمر..فخمس أصابع تكفي لتكتب حرية على جدار الخوف، خمسة تكفي لطلقة زناد..وجه الشمس العظيم تحجبه كف الشقاء. ..خمس أصابع تكفي لقبضة تحدٍ في المظاهرة، وتكفي أيضاً لحمل الحقيبة الأخيرة..خمس أصابع تكفي لتمسك يداً فقدت الحيلة، ومثلها تلوّح بها للغد، وتواسي بها كل كتف متعب..خمس أصابع تكفي لتحمل فرحاً بسيطاً بحجم العالم، أستمر..حوّل أصوات رحى الحرب المفزعة لنغمات حب وسلام.
وقف القحوم طويلا، كأن الموسيقى لم تقو على سردية فجيعة بلاده، وتتساءل: أي عقابٍ هذا يا صنعاء.. تجرجر صنعاء خيباتها، وتصعد السلم الموسيقي متعبة، اثقلت خطاها مقاصل العدم، كل مفتاح موسيقي هنا أيقونة بؤس، لتنسى(السعيدة) اسمها، وتحفظ ضجيج الوحشة عن ظهر قلب، وإن كانت تحن للحنها القديم، وتمني نفسها أن تفارق الموسيقى وجعها، وتعود مروجاً، تسأل وتحلم من جديد.
ممتلىءً بها كان يحاول الموسيقار المبدع أن يبعد شبحَ الغياب عن خاطره المسكون بمدينته صنعاء، لتنساب الموسيقى مرة أخرى، أرجوانيّةٌ على خصر مغيبها، ذات المدينة التي اختبأت خجلةً من حلمهم المنشود في غد آتِ على أجنحة الأمل المرتجى، عندما تربصت بها خفافيش الظلام، حينما سُنّت مناجلُ الحصاد، وأحتشد أبناؤها الذين حُفيت أقدامهم وهم يقفون طويلاً في وجه الظلم بجسارة، لجني ثمار نضالاتهم في التوق للحرية والكرامة والإنسانية والعدالة والحياة.
الموسيقار محمد سالم القحوم (1991 -) مؤلف وموزع موسيقي يمني، الذي حصل على بكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة حضرموت، اليمن، انخرط في الحقل الفني عبر تلقي العديد من الدورات الموسيقية في المعهد الوطني للموسيقى في العاصمة الأردنية عمّان، كما تدرّب على يد الأكاديمي محمد سعد باشا، رئيس قسم التأليف والقيادة – معهد الكونسرفتوار والمايسترو بدار الأوبرا المصرية، والدكتور أيمن الشعراوي، أستاذ بكلية التربية الموسيقية بجامعة حلوان، ليعمل في مجال الهندسة الصوتية والتوزيع الموسيقي بين العامين 2004 و2017، ويؤسس في العام 2006 شركة وأستوديوهات “صدى الإبداع” في اليمن، ومقرها الرئيسي حالياً في الإمارات العربية المتحدة.
خلّاق دون جعجعة:
فهو ثيمة جمالية واحدة لمن لم يزر تلك المناطق “اليمن السعيد”، خلّاق دون جعجعة، شريان استناري ومثقف نهم للمعرفة، عكف طويلاً على مشروعه ليقدم أعمال فنية يمنية، بقالب موسيقي عالمي، نقل عبرها صورة إيجابية عن وطنه، أبهر العالم بمقطوعات ضاجة بالجمال، فمن دار الأوبرا الماليزية، إلى قاهرة المعز، ثم عاصمة النور باريس، حتى الإمارات العربية والكويت، عزف لحن السلام بحُب، لبلاد تفتح ذراعيها في حفاوة مدهشة لكل مقبل، كأنها قابلت حبيبها تنتظره من سنين، يتماهى فيها الانسان مع عبق الطبيعة، وإن فقد ذاك اللوحة الجمالية بعضاً من عنفوانه، فكنا على موعد مع أصوات ألُوفة من عمق الحراك الاجتماعي هنالك، تحمل في جوفها همهمات المزارع بأغان الحصاد، أهازيج الأعراس حاضرة، رغم بؤس الزمان، لأن الانسان اليمني المعلم يمد لسانه لكل مكدرات حياته، يطوعها صانعا فرحا يليق بقلبه الطيب.
جاء القحوم من عمق المدن التي توزع فيها القهر على أكتاف الناس بعناية، عانى كغيره انكسار الروح في حضرموت، لكنه انتفض في وجه بشاعة الظلم، ليقف شامخاً في محراب الأوبرا، يلبس درع أحلام شعبه في العيش الكريم كاملة، ويستولد السلام من أضلع المستحيل الذي يخيم على بلده، ترتسم على قسمات وجهه أماني أن يُطوى شادر البؤس المفتوح على حياتهم، لتلبس “السعيدة” ثوب الحياة الزاهي كما تشتهي، بأناقة ونخبوية ورفعة، بعدما عرفت صوتها جيداً، عرفت مداه، وقوته، لن تعيره، ولن تستعير صوتاً من أحد، وحتماً لن تقطع مُكدرات الزمان حبل الحلم، فتلك الأرض عودتهم أنها مجبولة على الهناءات، إن أصابت السواعد النبيلة رحم الفأل، وفتحت شرفات من الإبداع تضيء دروبَها المعتمة، حتماً سننتصر “اليمن السعيد” على نهر الدماء والخراب والعبث، لأحقر من خُلقوا فيها.













