
تحليل فني: محمد فتحي
في خطوة جديدة تُضاف إلى مسار صعود السينما السودانية في المحافل الدولية، خطفت المخرجة سوزانا ميرغني الأضواء بفيلمها «ملكة القطن»، الذي تُوِّج بجائزة الإسكندر الذهبي لأفضل فيلم روائي طويل في مهرجان سالونيك السينمائي الدولي باليونان. ولعل هذه الجائزة ليست مجرد تكريم لفيلم بعينه، بقدر ما تمثل اعترافاً جديداً بطفرة فنية تشهدها السينما السودانية، التي استطاعت خلال السنوات الأخيرة أن تثبّت حضورها في مشهد عالمي بالغ التنافسية، وتقدّم صوتها الخاص عبر أعمال تتكئ على صدق الحكاية وجرأة الرؤية.
منذ عرضه الأول في أسبوع النقاد في مهرجان فينيسيا، بدا واضحاً أن «ملكة القطن» يحمل ما هو أبعد من قصة سينمائية، فهو عمل يقدّم بصرياً وشعرياً لوحة عن مجتمع يتقاطع فيه الإرث مع التحولات، وتتشابك فيه الأصوات النسائية على نحو يجعله نصاً مفتوحاً على التأويل. وبأداء لافت من بطولة مِهاد مرتضى، رباح محمد محمود، طلعت فريد، حرم بشير، محمد موسى، حسن كسلا، يتقدم الفيلم بجمالية هادئة، محمّلة بما يكفي من التوتر لتجعل المشاهد في حالة يقظة حسّية منذ اللقطة الأولى وحتى انتهاء العنوان الأخير.
تسرد ميرغني حكايتها من قلب المدن والقرى السودانية، حيث يشكّل القطن رمزاً مضاعفاً؛ فهو في آنٍ واحد مصدر رزق، ورمز جمال، وصناعة تتحرك في صمت منذ عقود. تختار المخرجة أن تتناول هذا الرمز عبر شخصية شابة تقف بين عالمين: عالم التقاليد الذي يريد أن يحدد مسارها، وعالم آخر يتفتح أمامها محمّلاً بوعود التحرر. ومن خلال هذه المنازعة الوجدانية، يطرح الفيلم أسئلة تتجاوز محيطه الجغرافي: من يملك الحق في سرد الحكاية؟ وكيف يمكن لجيل جديد من المبدعين والمبدعات أن يعيد كتابة العلاقة بين الواقع والحلم؟
الجمالية البصرية في الفيلم تكشف عن حساسية عالية في التعامل مع الضوء والألوان، وكأن الكاميرا نفسها تنسج نسيجاً من خيوط القطن الممتدة عبر الزمن. لا تعمل ميرغني على إبهار المشاهد بقدر ما تأسره بالبطء المدروس، حيث يتحول الإيقاع الهادئ إلى مسرح تتنفس فيه التفاصيل: حركة اليد على القماش، صمت الغرفة قبل بدء الحوار، والظلال التي تتحرك فوق جدران طينية كأنها تتذكر ما مضى. هذه التفاصيل تجعل الفيلم أقرب إلى قصيدة سينمائية، تحمل ملمساً حسياً وشعوراً بالحميمية.
وما يزيد من أهمية الإنجاز، أن الجوائز العالمية باتت تتوجه إلى السينما السودانية باعتبارها صوتاً صاعداً لا يمكن تجاهله. فمنذ نجاحات «ستموت في العشرين» وصولاً إلى أفلام تشق طريقها في منصات كبرى، يبدو أن السودان يعيش لحظة سينمائية جديدة، تتجاوز معضلات الإنتاج وتحديات البنية التحتية نحو صوغ هوية بصرية لا تشبه إلا نفسها. وفي قلب هذا المشهد، يأتي «ملكة القطن» ليضع حجراً إضافياً في هذا البناء، مؤكداً أن السينمائيين السودانيين مهما كانت الظروف قادرون على تقديم حكايات تلامس الجمهور العالمي بلغة يفهمها الجميع: لغة الصدق.
جائزة الإسكندر الذهبي ليست مجرد تقدير دولي، بل هي شهادة على أن الفن حين ينبع من خصوصيته يصبح أكثر عالمية. ولعل ميرغني، التي كتبت وأخرجت الفيلم بعين تعرف أرضها جيداً، استطاعت أن تنقل هذه الخصوصية إلى شاشة عالمية دون أن تفقدها روحها المحلية. إذ ظل الفيلم وفياً لجذوره، للبيوت التي تنسج قطنها مع الفجر، وللنساء اللواتي يحملن ذاكرة المكان على أكتافهن، وللأسئلة التي تظل معلّقة بين السماء والتراب.
بهذا الفوز، تُثبت «ملكة القطن» أن السينما السودانية لم تعد مجرد حضور عابر في المهرجانات، بل قوة فنية تتشكل وتترسخ، قادرة على المنافسة، وعلى الاعتراف العالمي. فيلم يفتح الباب لأسئلة جديدة، ولجيل جديد، ولرؤية تُعيد للسينما السودانية بريقها، وتمنح المشاهد العربي والدولي فرصة لاكتشاف بلد يروي قصصه بصدق، وبروح إبداعية لا تهدأ.













