
“وغداً نعود… حتماً نعود”
حلم السودان المؤجَّل من نشيد الاستقلال إلى رماد الحرب
لم يكن شعار الاحتفال بالذكرى السبعين للاستقلال: «وغداً نعود… حتماً نعود» عبارةً عابرة، ولا مجرد جملة عاطفية تُزيّن منصات الاحتفال، بل بدا كأنه مرآة موجعة لتاريخٍ سودانيٍّ طويل من الانتظار. انتظار الدولة التي لم تكتمل، والحلم الذي ظل معلقاً بين خطابات الساسة ووجع الشارع، وبين نشيد الاستقلال ودويّ المدافع.
منذ أن أُنزل علم الاستعمار في الأول من يناير (كانون الثاني) 1956، بدا السودان وكأنه على موعد مع المستقبل. بلدٌ شاسع، غني بالموارد، متنوع الثقافات، يمتلك كل مقومات النهوض، لكنه، ومنذ اللحظة الأولى، دخل في صراعٍ مع ذاته. لم يكد الاستقلال يجفّ حبره حتى بدأت الانقسامات السياسية، وتناوبت الحكومات المدنية والعسكرية، كأن البلاد لم تجد بعد شكلها النهائي، ولا عقدها الاجتماعي الجامع.
على مدى سبعة عقود، ظل السودان يدور في حلقة مفرغة: ديمقراطية قصيرة الأنفاس، يعقبها انقلاب عسكري، ثم وعد جديد بالعودة إلى الحكم المدني. «وغداً نعود» تحولت من نشيد أمل إلى لازمة سياسية، تتكرر مع كل مرحلة انتقالية، ومع كل بيان رقم واحد، ومع كل انتفاضة شعبية تخرج من رحم المعاناة.
لكن الحلم السوداني لم يكن سياسياً فقط؛ كان حلم إنسانٍ بسيط يريد دولة تحميه، وتمنحه حقه في التعليم والصحة والعيش الكريم. غير أن الحروب الأهلية، منذ الجنوب إلى دارفور، ثم النيل الأزرق وجنوب كردفان، استنزفت الجسد الوطني، وعمّقت الجراح، وكسرت الثقة بين المركز والهامش. كان الوطن يتآكل من أطرافه، بينما ظل الخطاب الرسمي يَعِد بالعودة دائماً… إلى أين؟ لا أحد يعرف على وجه اليقين.
ثم جاءت ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، كأنها لحظة استثنائية في التاريخ السوداني الحديث. خرج الناس بلا سلاح، يهتفون للحرية والسلام والعدالة، ويظنون أن «العودة» هذه المرة ستكون حقيقية: عودة الدولة إلى شعبها، وعودة الجيش إلى ثكناته، وعودة السياسة إلى معناها الأخلاقي. للحظةٍ قصيرة، بدا الحلم قريباً، وكأن الشعار القديم وجد أخيراً طريقه إلى الواقع.
غير أن التاريخ السوداني، المثقل بالخيبات، لم يمنح الثورة ما تستحقه من زمن. سرعان ما تعثرت المرحلة الانتقالية، وتكاثرت الصراعات داخل السلطة، وتقدمت الحسابات الضيقة على المصلحة العامة. ومع اندلاع الحرب الضروس بين أطراف السلاح، دخل السودان واحدة من أكثر لحظاته ظلمة منذ الاستقلال.
اليوم، بينما تُرفع الشعارات في ذكرى الاستقلال، يعيش السودان واقعاً يناقض كل احتفال. مدن تُقصف، وأحياء تتحول إلى أطلال، وملايين النازحين يبحثون عن مأوى في الصحاري وعلى أطراف المدن، وأحلام صغيرة تُدفن تحت الركام. صار السؤال أكثر قسوة: أي عودةٍ يُبشّر بها الشعار، والبلاد تمضي بعيداً عن نفسها؟
الحرب الحالية لم تدمّر البلد فقط، بل كسرت ما تبقى من الثقة بين السودانيين، وأعادت إنتاج أسوأ كوابيس ما بعد الاستقلال: دولة غائبة، وسلاح حاضر، ومستقبل مؤجل. ومع ذلك، ورغم كل هذا الخراب، لا يزال الشعار يحتفظ ببريقٍ خافت. فـ «وغداً نعود» قد لا تكون وعداً سياسياً، بقدر ما هي تعبير عن عنادٍ تاريخي، وعن إيمانٍ عميق بأن هذا البلد، مهما طال انكساره، لا يموت.
السودان، في جوهره، لم يفقد الحلم، لكنه أضاع الطريق إليه مراراً. والعودة التي ينشدها السودانيون اليوم ليست عودةً إلى السلطة، ولا إلى الشعارات، بل عودة إلى معنى الوطن: دولة بلا ميليشيات، وسياسة بلا بنادق، واختلاف لا يقود إلى الحرب.
في الذكرى السبعين للاستقلال، يبدو الشعار كأنه رسالة من الماضي إلى الحاضر: أن الاستقلال ليس حدثاً يُحتفل به، بل مساراً يُنجز. وأن «غداً نعود» لن تتحقق، إلا حين يقرر السودانيون أن يعودوا أولاً إلى بعضهم البعض، وأن يجعلوا من الوطن حلماً مشتركاً، لا غنيمة حرب.













