
في صمت يليق بكاتبٍ لم يكف عن طرح الأسئلة الصعبة، رحل عن عالمنا الكاتب السوداني-المصري رؤوف مسعد، أحد أبرز الأصوات الأدبية والفكرية في العالم العربي، عن عمر ناهز 88 عاماً. لم يكن رحيله مفاجئاً لمن عرف مسيرته الحافلة بالصراع، لا مع المرض فحسب، بل مع السلطة، ومع القيود التي كبّلت الفكر والحرية والتعبير، منذ نعومة أظافره وحتى سنواته الأخيرة.
ولد مسعد في السودان عام 1937، لأسرة مسيحية أنجليكانية، وكان والده قساً في إحدى الكنائس هناك. أرادته والدته قسيساً مثل والده، لكنه سرعان ما شق طريقه بعيداً عن قدسية الأروقة الكنسية إلى ضجيج السياسة والفكر والثورة. وحين قرر أن يكون للحرية ثمن، دفعه مبكراً، وواصل دفعه طوال حياته.
بين الكنيسة والمنشور السياسي:
فالطفل الذي نُذر يوماً لأن يكون رجل دين، كان في مراهقته يوزع منشورات شيوعية في شوارع الخرطوم والقاهرة، ويُراقب بعين المتمرد العالم الذي لم يكن مقتنعاً بقواعده، أُلقي القبض عليه في المرحلة الثانوية بسبب نشاطه السياسي، ولم تكن تلك المرة الأخيرة. التحق بكلية الآداب بجامعة القاهرة، حيث درس الصحافة وتخرج عام 1960، لكن فرح التخرج لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما اعتُقل مجدداً بتهمة الانتماء لتنظيم شيوعي، وقضى سنوات في سجن الواحات، وهو ما سيترك أثرًا عميقًا في كتاباته اللاحقة.
لم يكسر السجن روحه، بل زاد من صلابتها، ليبدأ المشاغب رؤوف مسعد من خلف القضبان، رحلة طويلة من التأمل في معنى الإنسان، والحرية، والسلطة، والهوية، وهي الثيمات التي ظلت تلازمه في معظم أعماله، سواء في الرواية أو المسرح أو المقال السياسي.
أدب المنفى… لا بكائيات، بل مقاومة
لم يكن مسعد كاتبًا نمطيًا يتحدث عن المنفى بعبارات الحنين والشجن فقط، بل كان يرى فيه مختبرًا لتجربة الذات في مواجهة العالم. عاش في هولندا سنوات طويلة، لكنه بقي عربيًّا حتى العظم، يتنفس السياسة، ويكتب بالعربية عن قضايا العرب من داخل أوروبا، دون أن يفقد حسّه النقدي أو ارتباطه بجذوره.
في كتابه السيري “لما البحر ينعس: مقاطع من حياتي”، الصادر عام 2020، قدم رؤوف الجزء الأول من مذكراته، وفيه تتجلى تجربته بين السجون والمنافي، ممتزجة بالتحليل التاريخي والاجتماعي والسياسي. لم يكتب المذكرات كمن يوثق أحداثًا فقط، بل استخدم أدوات الروائي لإعادة بناء الذات في مواجهة العالم، وسجلًّا سرديًّا لتاريخ عربي مليء بالقمع والنفي والخذلان.
الكاتب الذي لم يصالح السلطة ولا الأيديولوجيا:
تميّز رؤوف مسعد بجرأته الفكرية وتجريبه الدائم في اللغة والبناء السردي، طارحاً نفسه كاتباً مغايراً، يرفض الانخراط في جوقة المثقفين المتملقين للسلطة أو المتقوقعين داخل أيديولوجيات مغلقة. وعلى الرغم من خلفيته اليسارية، إلا أنه لم يقدّس الرموز أو يُصنّم الأفكار، بل مارس نقدًا صارمًا تجاه الجميع، بدءاً من النظم السياسية إلى الأحزاب الثورية نفسها.
في روايته “بيضة النعامة”، طرح مسعد سؤال السلطة من زاوية جديدة، حيث اختلط الواقعي بالسريالي، وتحولت الذاكرة الشخصية إلى ذاكرة جمعية تؤرّخ لقمع الإنسان العربي. وفي “غواية الوصال” و”مزاج التماسيح” و”صانعة المطر”، كان الصوت السردي يمزج بين التحليل النفسي والتجريب اللغوي، ليكشف عن أعماق النفس البشرية، خصوصاً تلك التائهة في منفى داخلي لا يقل قسوة عن المنفى الجغرافي.
المسرح والحرية… صراخ على الخشبة:
لم يكن الأدب وحده ساحة معركته، بل كان المسرح بالنسبة له مساحة مواجهة علنية، ليكتب عدة مسرحيات جريئة منها: يا ليل يا عين، ولومومبا، والنفق. لم تكن هذه الأعمال مجرد نصوص فنية، بل بيان سياسي وثقافي بامتياز، حيث ناقش من خلالها قضايا التحرر الوطني والهوية والانتماء والعنف الرمزي والاجتماعي، كما شارك مع الروائي صنع الله إبراهيم والصحفي كمال القلش في كتاب “إنسان السد”، وهو عمل مشترك وثّق تجربة بناء السد العالي، لكنها لم تكن وثائقية تقليدية، بل محاولة لقراءة مشروع سياسي وتنموي من منظور إنساني واجتماعي معقد.
ناشر مستقل… وصوت من لا صوت لهم
في زمن كانت فيه دور النشر العربية تُدار بعقلية رقابية أو تجارية، أسهم رؤوف مسعد في تأسيس دور نشر مستقلة دعمت حرية التعبير، واحتضنت أصواتاً شابة وجرئية، وكسرت محظورات كثيرة كانت مسكوتًا عنها. لم يكن مجرد كاتب، بل فاعلاً ثقافيًا مؤمنًا بأن حرية الكلمة تبدأ من حرية النشر، في هذا الدور، فتح الأبواب لأجيال جديدة من الكتّاب الذين وجدوا فيه المعلّم والصديق والداعم. لم يكن يقبل التنازلات، وكان يردد دائماً: “الكتابة موقف، لا مهنة”.
في رحيله… غياب جسد وحضور صوت:
برحيل رؤوف مسعد، يفقد المشهد الثقافي العربي صوتاً حراً، وعقلاً نقديًا ظل صامدًا رغم الإقصاء، والرقابة، والتهميش. لكن ما يميّز تجربته أن أثرها لا يُقاس بعدد الجوائز أو المناصب، بل بما تركه من أثر عميق في ضمير القارئ العربي بما طرحه من أسئلة لا تزال إلى اليوم تبحث عن أجوبة، لأنه لم يكن كاتباً يعرض حلولًا، بل يفتح نوافذ الوعي على أسئلة مربكة: من نكون؟ ولماذا نعيش كل هذا القهر؟ وهل يمكن للكتابة أن تنقذ الإنسان من الانهيار؟
إرث لا يُطمس:
رؤوف مسعد لم يكن مجرد روائي أو صحفي أو ناشر، بل كان مشروعاً فكريًا كاملاً، جمع في مسيرته بين السياسي والأدبي، بين الذاتي والعام، وقدم نموذجًا للكاتب الذي لا ينفصل عن قضاياه، ولا يهادن في مواجهة الظلم، وإن كان قد عاش حياة منفى طويلة، فإن أدبه سيبقى بيننا، شاهداً على زمن عربي مثقل بالأسئلة، وباحثاً عن كُتّاب لا يخافون، وحتماً سنقول ونحن نقف على إرثه الثري: وداعًا أيها الراوي المتمرد… وداعًا أيها العابر بين الكلمات والمنافذ والمنافي.













