
تونس: محمد فتحي
تُجسِّد أحداث مدينة قابس (جنوب شرق تونس) في هذه الأيام إحدى أكثر المعادلات السياسية والبيئية تعقيدًا في البلاد لتفاقم التلوث البيئي الذي يعم المنطقة، ويؤرق مضاجع الأهالي جراء ارتفاع حجم الضحايا، فكيف يُوازن الحكومة بين المطلب الصحي العاجل للمواطنين وضرورة استمرار إنتاج الفوسفات، الذي يُعدّ من أهم موارد النقد الأجنبي في البلاد؟
مرت قابس مؤخراً، بـ يوم غضب شعبيّ، حيث خرج مئات النشطاء والطلاب والتلاميذ في مسيرة تحت شعار “أوقفوا التلوث”، مطالبين بتفكيك وحدات المجمع الكيميائي بالمنطقة، بعد تجدد حالات اختناق في المناطق المحيطة به. وانطلقت المسيرة من ساحة الشهداء وصولاً إلى شاطئ السلام، وسط حضور لافت واضراب في المدارس والجامعات، هذا المشهد لم يكن احتجاجًا بيئيًا فقط، بل عصيان مدني يضع الحكومة أمام اختبار أخلاقي وسياسي.
الخلفية التاريخية والصناعية: الفوسفات في تونس
تُعد تونس واحدة من الدول التي تمتلك احتياطيات فوسفات كبيرة في إفريقيا والعالم، حيث يُعتبر هذا المورد الطبيعي ركيزة لتصدير الأسمدة ودعم الاقتصاد الوطني، ورغم تذبذب القطاع الصناعي على مدى السنوات، حافظ الفوسفات على حجم الإنتاج، حيث بلغ الإنتاج في عام 2010 مستويات قوية، إلا أنه شكل تراجعاً بعد الثورة التونسية، بسبب الاحتجاجات والاضطرابات الاستراتيجية.
حملت العام 2024، بشريات كبيرة، حيث سجّلت شركة فسفاط قابس «CPG» إنتاجًا تجاريًا يقارب 3.03 مليون طن من الفوسفات وفقًا لتقرير تحليلي، ما يُشكل مؤشّراً على بداية استعادة النشاط الصناعي الكامن، حيث سجل الربع الأول زيادة في الإنتاج بنسبة 8.4٪ حيث بلغ نحو 789,812 طنًا، مما يدل على أن القطاع تنفس الصعداء بعد سنوات سنوات صعبة، ما فتح شهية الحكومة لوضع خططًا طموحة للنهوض بهذا القطاع بين 2025 و2030، من خلال استثمارات تقدر بـ 525 مليون دينار تونسي (حوالي 165 مليون دولار) لتحديث المعدات وتوسيع العمليات الإنتاجية بهدف رفع الإنتاجية إلى 8.5 مليون طن بحلول 2030، مع تعزيز القطاع للوصول إلى 14 مليون طن سنويًا على المدى البعيد.
وبحسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء، شهدت صادرات قطاع المعادن والفوسفات والمركّبات المرتبطة به ارتفاعًا بنحو 8٪ في أول تسعة أشهر من 2025، مما يظهر أن القطاع لا يزال يحتفظ بأهميته في موازنة الصادرات الوطنية.
إجمالًا، يعدّ قطاع التعدين والفوسفات واحدًا من أعمدة الاقتصاد التونسي، حيث تُساهم صناعة التعدين بنسبة تقريبية تبلغ 3٪ من الناتج المحلي، بينما يُظهر الفوسفات تأثيرًا ملحوظًا على الصادرات، لكن التوسع المأمول لهذه الصناعة قد يصطدم بعبور حساس: صحة المواطن.
مأساة قابس: الاحتجاج والتلوّث والصراع الصحي
تنفيذ خطط الحكومة للتوسع في القطاع بغية تعزيز الإنتاجية، سرعان ما أشعل الغضب الشعبي بمدينة قابس التي تحتضن هذه الصناعة، فانفجر الاحتقان المتراكم منذ مطلع سبتمبر 2025 جراء موجات حالات الاختناق وتكدس مستشفيات المدينة بمرضى الجهاز التنفسي إثر استنشاق أبخرة سامة من المجمع الكيميائي المعني بمعالجة الفوسفات، في مشهد يتفاقم فيه الوضع الصحي يوماً بعد يوم، ويؤرق مضاجع الأهالي هنالك بعد أن تم إسعاف نحو 122 شخصًا في يوم واحد، وفقًا لمسؤول محلي مطلع، و لفت منسق حملة “أوقفوا التلوث”، خير الدين دبية، إلى أن المجمع يُصرف نفاياته الصلبة والغازية في الهواء الطلق أو مياه البحر، مع ملاحظة أن نحو 93٪ من التنوع البيولوجي البحري في قابس قد اختفى جزئيًا بفعل هذه العمليات.
ضحايا الطريق: أرقام مأساوية بين الجهل والبيانات
ورغم شح الإحصاءات الرسمية المستقلة التي تكشف عدد الضحايا الأمراض المنتشرة في قابس المرتبطة بالتلوث، مثل السرطان، أمراض الرئة، التشوّهات الخلقية، إلا أن تقرير مختبر العلوم الجيولوجية والبيئة في تولوز، صادر في ديسمبر السابق، ذكر أن محطة قابس ترسل مستويات ملوّثات عالية جدًا قد تؤدي إلى “تشوهات خلقية في القلب” وأنواع متعددة من السرطان، كما تُشير دراسات محلية إلى أن التعرض الطويل للانبعاثات قد يزيد من مخاطر أمراض الكبد، الجهاز العصبي، الكلى، والجهاز التنفسي، لذا يسيطر على الشارع شعور بأن احتجاجات اليوم قد تكون نقطة تحول في تاريخ العلاقة بين المواطن والدولة في تونس.
التحدي الحكومي: بين الصحة والإنتاج
تمكّن الفوسفات من أن يكون ركيزة للاقتصاد التونسي لسنوات، بل إن الحكومات المتعاقبة غالبًا ما اعتبرت القطاع “ثروة وطنية لا يجوز المساس بها”. اليوم، يُجبر الضغط الشعبي؛ السلطة على المراجعة، فوصف الرئيس قيس سعيد ما يجري في قابس بأنه “اغتيال بيئي”، وألقى اللوم على السياسات القديمة والإهمال الفني في المجمع. كما دعا الوزارات المعنية إلى تشكيل لجنة عاجلة لتفقد الوحدات والصيانة، وقد أُعلن عن تشكيل لجنة وزارية مشتركة مهمتها وضع حلول عاجلة، لكن حتى الآن لم تُعلن النتائج ولا الإصلاحات بشكل ملموس.
من الناحية الاقتصادية، تواجه الحكومة عجزًا ماليًا حادًا يتطلب تدخلاً استثنائيًا، إذ قررت طلب تمويل مباشر من البنك المركزي بقيمة 3.7 مليار دولار لسد العجز في ميزانية 2026، لذلك تظل الحكومة تصرّ على أن الفوسفات يملك قدرة كبيرة على إنعاش الاقتصاد، لذا وضعت خطة لرفع الإنتاج إلى خمسة أضعاف (من 3 ملايين طن إلى نحو 14 مليون طن بحلول 2030)، إذاً تعزف الحكومة على عدة أوتار، نبرة متصالحة لتهدئة الأهالي، والعودة إلى التوسع الصناعي الذي يُنظر إليه بعين الشكّ في قابس، التي لطالما طالبت بالإغلاق أو النقل بعيدًا عن الأحياء المأهولة.
من وجهة نظر الخبراء هنالك، إن إصلاح المجمع القديم، وتركيب أنظمة تنقية جدّية، وإنشاء خطط بيئية صارمة، ربما توفر جسرًا مؤقتًا بين الصحة والاقتصاد، لكن الإغلاق الكلي أو النقل سيكون الأكثر أمانًا من الناحية الصحية على المدى الطويل.
خارطة طريق للمستقبل: تصحيح المسار قبل الانهيار
وفي السياق؛ يقدم عدد من المختصين بتونس روشتة علاج لهذه المعضلة البيئية تمثلت في نقلت المنطقة الصناعية بعيداً عن المدينة، مع ضمان عودة العمالة المشروطة بإنشاء وحدات نظيفة، تحديث التقنيات البيئية في المجمع (أنظمة تنقية الغازات، إعادة استخدام المواد الثانوية، التصريف الآمن للجبس الفوسفوري)، مراقبة بيئية يومية وشفافية في نشر نتائج الانبعاثات وتقارير المستشفيات، لردم الفجوة بين المواطن والجهة الحكومية.
ويرى المختصون ضرورة تعويض صحي واجتماعي عادل للسكان المتضررين من الأمراض على مدى السنوات، وربط هذا التعويض بقانون بيئي يحمّل الشركة والدولة المسؤولية، ضخ التنمية في عروق قابس؛ عبر دعم السياحة البيئية، والزراعة المستدامة، ومشاريع الطاقة المتجددة، لتقليل الاعتماد على القطاع الكيميائي وحده، مع إشراك السكان والتشاور في كل خطوة، بحيث يُمنحون صوتًا فاعلًا في القرارات التي تمس صحتهم وبيئتهم.
خاتمة:
بين المطالبة بالحق في بيئة سليمة وروشتة علاج المختصين للواقع المزري…يظل ملف التلوث البيئي في قابس التحدي الأكبر؛ يراوح مكانها، فهل تجد صرخات الأهالي آذان صاغية من الحكومة، أم ستمضي غير آبه بمصيرهم في طريقها المرسوم لتعزيز الإنتاجية؟













