
أطلق برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة ناقوس الخطر، محذرًا من اقتراب توقف شامل لعمليات توزيع المساعدات الغذائية في إثيوبيا، ما يُنذر بكارثة إنسانية غير مسبوقة في بلد يعيش أصلاً تحت وطأة أزمات متراكبة من صراعات داخلية، وجفاف حاد، وتضخم اقتصادي خانق.
وقال البرنامج، في بيان أصدره يوم الخميس، إن العجز الحاد في التمويل يهدد بإجبار المنظمة على تعليق المساعدات الغذائية لنحو 5 ملايين شخص في البلاد، وهو ما يعني حرمان ملايين العائلات من مصدرهم الأساسي – وربما الوحيد – للحصول على الغذاء.
5 ملايين شخص على المحك
بحسب التقديرات الرسمية الصادرة عن برنامج الأغذية العالمي، فإن ما لا يقل عن 4.8 مليون شخص في مختلف أنحاء إثيوبيا يعتمدون على المساعدات الغذائية الشهرية لتلبية الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية. وتتركز هذه الأعداد في المناطق الشمالية والشرقية، خصوصاً في أقاليم تيغراي، وعفر، وأمهرة، وأوروميا، وهي مناطق شهدت نزاعات داخلية وأعمال عنف واسعة خلال السنوات الماضية.
وحذّر البيان من أن الانقطاعات المحتملة في برامج الغذاء “لن تؤدي فقط إلى زيادة معدلات الجوع الحاد، بل قد تسفر عن ارتفاع خطر المجاعة في بعض المناطق، لا سيما بين الأطفال، والنساء الحوامل، والنازحين داخلياً”.
ويقول كلاوديو مارانو، مدير برنامج الأغذية العالمي في إثيوبيا:
“نحن نواجه واحدة من أسوأ أزمات التمويل منذ بدء عملياتنا في إثيوبيا. إذا لم نحصل على دعم فوري، فسيُجبر البرنامج على اتخاذ قرارات مؤلمة بتعليق أو تقليص المساعدات، وهو أمر قد تكون عواقبه كارثية”.
أرقام صادمة: الجوع ينهش إثيوبيا:
تُظهر بيانات الأمم المتحدة أن نحو 20.1 مليون شخص في إثيوبيا – أي ما يعادل قرابة 16% من السكان – يعيشون حالياً في حالة انعدام أمن غذائي حاد، بينما يُقدّر عدد الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد بأكثر من 1.2 مليون طفل، غالبيتهم دون سن الخامسة.
وفي تقرير سابق لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، أُشير إلى أن نحو 4 ملايين نازح داخليًا يعيشون في ظروف شديدة القسوة، أغلبهم في مراكز إيواء غير مجهزة، ويعتمدون بالكامل على المساعدات الخارجية، خاصة الغذائية منها.
“نداء أخير” للمجتمع الدولي:
في ظل هذا الوضع المتدهور، أطلق برنامج الأغذية العالمي نداء عاجلاً للمانحين الدوليين لتقديم ما لا يقل عن 400 مليون دولار أمريكي بشكل فوري، لتمكينه من مواصلة عملياته حتى منتصف 2026.
ويشدد البرنامج على أن “النافذة الزمنية لإنقاذ الأرواح تضيق بسرعة”، معربًا عن أسفه لتراجع مستويات التمويل في ظل تنامي أزمات إنسانية أخرى عالميًا، مثل النزاع في أوكرانيا، وحروب غزة والسودان، وأزمات اللجوء في الساحل الإفريقي.
توقف مؤقت سابق… وتداعيات خطيرة:
يُذكر أن برنامج الأغذية العالمي كان قد علق مؤقتًا توزيع المساعدات في إقليم تيغراي خلال 2023، بعد رصد عمليات اختلاس وسوء توزيع، وهو ما تسبب في انقطاع المساعدات عن أكثر من مليون شخص لمدة ثلاثة أشهر، وأسفر عن تدهور سريع في المؤشرات الصحية والتغذوية، بما في ذلك زيادة معدلات الوفيات بين الأطفال بنسبة قاربت 35% في بعض المناطق الريفية، وفقًا لتقارير منظمات غير حكومية.
ومنذ استئناف المساعدات بشكل جزئي في 2024، أعادت الأمم المتحدة هيكلة منظومة التوزيع لضمان الشفافية، لكنها تؤكد أن نقص التمويل يظل التحدي الأكبر أمام استمرارية عملياتها الإنسانية.
أزمة مركبة: الجفاف والنزوح والحرب:
تعيش إثيوبيا، وهي ثاني أكبر دولة إفريقية من حيث عدد السكان (نحو 126 مليون نسمة)، أزمة غذائية متعددة الأوجه. فمن جهة، أدى الجفاف المتكرر وتغير المناخ إلى تراجع إنتاج الغذاء المحلي، وانخفاض حاد في مستويات المياه الجوفية، ما أثر سلبًا على الزراعة، التي تُعد مصدر دخل لأكثر من 70% من السكان.
ومن جهة أخرى، فإن النزاعات المسلحة الداخلية – أبرزها الصراع في إقليم تيغراي الذي استمر لعامين – أدت إلى تدمير البنية التحتية، وتعطيل الأسواق، وإجبار الملايين على الفرار من منازلهم، مما ضاعف الضغط على موارد الدولة والمنظمات الإنسانية.
ويقول تسفاي تاديلي، الباحث في السياسات الزراعية في أديس أبابا”: نحن لا نتحدث فقط عن أزمة غذائية، بل عن انهيار شبه كامل لنظام الأمن الغذائي في أجزاء واسعة من البلاد. في بعض المناطق، لا توجد أسواق، ولا بنية لوجستية، ولا قدرة على الوصول إلى الغذاء أو شرائه حتى لو توفر”.
ماذا بعد؟ سيناريوهات قاتمة
إذا لم يتم توفير التمويل المطلوب خلال الأسابيع القليلة المقبلة، يحذر برنامج الأغذية العالمي من أن عملياته في إثيوبيا ستتوقف بشكل تدريجي، ابتداء من ديسمبر 2025، ما سيترك ملايين الأشخاص في مواجهة مباشرة مع الجوع، وربما الموت، دون أي دعم خارجي.
وتشير تقارير إنسانية إلى أن هذا الانقطاع قد يؤدي إلى ارتفاع معدلات سوء التغذية الحاد بنسبة 45% خلال 3 أشهر، وزيادة النزوح الداخلي والهجرة غير الشرعية إلى دول الجوار، وتفاقم التوترات الاجتماعية في مناطق النزاع بسبب التنافس على الموارد المحدودة، وزيادة الضغط على المنظمات المحلية غير القادرة أصلاً على تلبية الطلب الحالي.
نداء تضامن… وفرصة أخيرة
وفي ختام بيانه، دعا برنامج الأغذية العالمي المانحين الدوليين، والمنظمات الخيرية، والمؤسسات المالية الكبرى، وحتى الأفراد، إلى “التحرك العاجل والفاعل لإنقاذ الأرواح”، مؤكدًا أن “إثيوبيا تقف الآن عند مفترق طرق، وكل يوم تأخير يعني المزيد من الجوعى، والمزيد من الأرواح المهددة”.، كما حث البرنامج الحكومة الإثيوبية على تسهيل مهام المنظمات الإنسانية، وضمان الوصول غير المشروط إلى جميع المناطق المتضررة، بما في ذلك مناطق النزاع والنزوح.
في الخلاصة: صوت الجوع أعلى من الصمت
تقف إثيوبيا اليوم على شفا كارثة غذائية قد تُدخل البلاد في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخها الحديث. وبينما تتقلص خيارات الملايين في المناطق المنكوبة، يصبح التحرك الدولي ضرورة لا تحتمل التأجيل، فالجوع لا ينتظر، والأرقام لم تعد مجرد إحصائيات… بل وجوهٌ حقيقية، وأطفال يتضورون، وأمهات لا يملكن شيئًا سوى الصبر والأمل.













