الخرطوم:حسام الدين ميرغني
تحت شجرة نيم ظليلة بالقرب من شارع النيل بمدينة أم درمان التأريخية بالسودان، كانت السيدة عوضية عبده تجلس لساعات تقاوم شمس النهار اللاهبة وإعاقتها و مطاردات قوات النظام العام التي كانت تمنع البيع في الطرقات العام. كانت عوضية عبده تمنح من لا مال له ما يعدل مزاجه من الشاي المنعنع والقهوة المصنوعة بحب، لم تكن تتوقع أن نهر النيل الذي يجري جوار مجلسها سيكون مصدراً لرزق حلال واسع قادم لها في مقبل السنوات.
عوضية عبده التى تنحدر من منطقة جبال النوبة بجنوب كردفان، نزحت مع أسرتها قبل سنوات لأحد أحياء أم درمان الطرفية من نيران الحرب و أوراها، وانتقلت بعدها للعيش بحي الديم وسط الخرطوم، مارست بيع الشاي لسنوات قبالة النيل، قبل أن تتحول لأكبر بائعة أسماك بالسودان، ولدت عوضية مطلع خمسينيات القرن الماضي وأصيبت بشلل نصفي بعد بلوغها سن الثانية من عمرها، و اقتصر المرض بعد فترة من العلاج البلدي والشعبي على ثقل في رجلها اليمني. جربت العديد من المهن الهامشية لمساعدة زوجها قبل أن يستقر رأيها على بيع الشاي قبالة شاطئ الموردة بأم درمان معقل صيادي الأسماك.
ومنها تحولت بعد سنوات قليلة لطهي طعام الصيادين مما يمنحونه لها من أسماك مقابل أجر زهيد، و نسبة للإقبال الواسع على طبخها تحول مرتادي كل سوق السمك ليتناولوا وجبة معدة بيدها لتنتقل بعدها إلى مرحلة شراء الأسماك وطهيها لحسابها و استأجرت بعدها منزلاً مجاوراَ لسوق السمك تمارس عبره مهنتها الجديدة (مطعم الأسماك).
الثراء الذي تعيش به عوضية سمك الآن، لم يكن الطريق إليه سهلاً، فقد تم طردها لأكثر من مرة من المنازل التي تستأجرها لطهي الأسماك ،قبل أن تنتقل قبل 23 عاماً إلى مقرها الحالي قبالة حي الموردة بأم درمان، وتمكنت من شراء الأرض بعد سنوات من الكفاح بمبلغ مالي كبير أقامت عليه أكبر مطعم للأسماك بالسودان ويصل دخله اليومي إلى ما يفوق المائة ألف جنيه (10 آلاف دولار).
توفر عوضية سمك أكثر من 60 وظيفة للشباب من الجنسين بمطعمها ،كما توفر عدداً من الوجبات المجانية للمشردين والمتعففين والفقراء الذين تخصص لهم مكاناً معينا ً لتناول الوجبات المجانية في المطعم، لم تتوقف على ذلك بل افتتحت قبل سنوات مشغلاً لتعليم الحياكة للسيدات من ذوي الإعاقة والأرامل وتخرج من المشغل أكثر من ألفي سيدة منذ افتتاحه، ولمكانتها السامية في المجتمع كرمتها الدولة أكثر من مرة كما أصبحت من ضمن الكيانات الأهلية التى تعمل على فض النزاعات والتدخل في إصلاح ذات البين للأفراد والجماعات والقبائل في كل السودان.
لم يتوقف عمل عوضية سمك الخيري على تدريب السيدات على الحياكة والخياطة ولكنها افتتحت روضة مجانية لتعليم الأطفال الفقراء إلى جانب تشغيل الطالبات الفقيرات بمطعمها لتوفير مصاريف دراستهن وتبنت تكاليف ختان أكثر من 3 آلاف طفل خلال السنوات الماضية ودعم صيانة عدد من الفصول الدراسية بالأحياء الفقيرة وتوفير تمويل أصغر لعدد من الأسر الفقيرة بدون هامش أرباح.
منح الرئيس السوداني السابق ،عمرالبشير، عوضية سمك وسام الامتياز من الطبقة الأولى، وتم ترشيحها لجائزة الأم العربية المثالية بالكويت، كما كرمت لأكثر من مرة ضمن فعاليات يوم المرأة العالمي بالسودان.
لتسطر لوحة مضيئة لقصة كفاح توجت بدخولها عالم الأعمال، لا شك أنها قصة ملهمة لرواد ورائدات الأعمال.