“السماء ليست بعيدة”… هكذا حلّقت رانيا جعفر بطموحها فوق حدود التقاليد!!

الخرطوم: محمد فتحي

في قلب مطار الخرطوم الدولي، حيث تختلط أصوات الإقلاع وصفارات الوصول، وحيث يُكتب تاريخ السودان الجوي مع كل رحلة جديدة، تقف رانيا جعفر عباس كأيقونةٍ حيّةٍ للطموح والإصرار. قصة هذه الشابة ليست حكاية عابرة في عالم الطيران، بل درسٌ عميق في كيفية تحويل البدايات البسيطة إلى منصّات تحليق نحو القمة.

لم تولد رانيا في قمرة القيادة، ولم تُفتح لها أبواب المكاتب الواسعة منذ اليوم الأول. بل بدأت من حيث يندر أن تبدأ الأحلام الكبيرة: قسم خدمة الأمتعة بشركة ماكس للخدمات الأرضية، هناك، وسط حركة الحقائب والعرق والجهد، كانت تصنع طريقها بخطوات ثابتة، متسلّحة بابتسامةٍ لا تغيب، وإيمانٍ راسخ بأن «كل عمل شريف هو خطوة نحو العلوّ”.

بداية متواضعة… ورؤية بعيدة:

عام 2013، دخلت رانيا عالم الطيران حاملةً شهادة في اللغة الفرنسية من كلية الآداب، ولكنها كانت تحمل ما هو أهمّ من الشهادات: شغف التواصل مع الناس وحبّ الانضباط الذي يميز بيئة المطارات. لم تكن البداية سهلة، فالعمل في خدمة الأمتعة يتطلب جهداً بدنياً مضاعفاً ودقّةً لا تحتمل الخطأ، لكن الشابة كانت تدرك أن كل حقيبة تحمل قصة، وكل راكب يملك عالماً خاصاً، وأن التعامل الإنساني هو جوهر نجاح أي تجربة في قطاع الطيران.

في عامٍ واحد فقط، أثبتت رانيا كفاءتها العالية والتزامها بالمعايير الدولية للخدمة، فانتقلت إلى قسم خدمة العملاء، لتبدأ فصلاً جديداً من مسيرتها. هناك، واجهت مئات المسافرين يومياً من مختلف الجنسيات، وتعلمت كيف تكون الوجه الأول للسودان في عيون العالم، بابتسامةٍ هادئة واحترافٍ رفيع.

من موظفة استقبال إلى قائدة فريق:

مع مرور الوقت، بدأت خطواتها تتسارع، فالإصرار لا يعرف التوقف. تدرجت رانيا في المناصب داخل الشركة، واكتسبت خبرة عملية في إدارة العمليات الأرضية والتعامل مع شركات الطيران الدولية، إلى أن أصبحت رئيسة وردية – أو كما يسميها زملاؤها: «الكابتن على الأرض”.

في هذا الدور، لم تكن مجرد مشرفة إدارية، بل كانت قائدة ميدانية، تُدير فرق العمل في أكثر اللحظات توتراً، حين تتأخر الرحلات أو تتكدس الطائرات أو تتبدل الجداول فجأة. تقول رانيا في إحدى مقابلاتها التوثيقية:”العمل في المطار يُعلّمك أن تكون هادئاً وسط العاصفة، وأن تقود بالثقة لا بالصوت العالي”.

علاقات دولية… وتجارب عابرة للحدود

رانيا لم تكتفِ بخدمة شركة واحدة، بل شاركت ضمن منظومة الطيران العالمية، وتعاونت مع شركات كبرى مثل الخطوط الخليجية، التركية، المصرية، القطرية، الإماراتية، فلاي ناس، السورية، والإريترية. كل تجربةٍ كانت مدرسةً، وكل تحدٍّ كان مساحةً لتطوير الذات، وهكذا، كوّنت لنفسها هويةً مهنية فريدة تمزج بين الصرامة والانفتاح، وبين الحزم والإنسانية.

امرأة سودانية تكسر الحواجز:

في مجتمعٍ ظلّ قطاع الطيران فيه يُنظر إليه بوصفه مجالاً ذكورياً بحتاً، ظهرت رانيا لتقول: «ليس هناك عمل مخصص للرجال فقط، بل هناك عملٌ يتطلب كفاءة، وأنا أملكها”، فلم يكن الأمر سهلاً، فقد واجهت نظرات الشكّ في البداية، لكنها حوّلت كل تحدٍ إلى دافعٍ للإنجاز. وسرعان ما أصبحت قدوةً لزميلاتها، ودليلاً على أن المرأة السودانية قادرة على أن تكون في الصفوف الأولى، سواء على الأرض أو في السماء.

تقول إحدى زميلاتها في مطار الخرطوم:”رانيا لا تكتفي بإدارة الفريق، بل تبثّ فيه الحماس. حضورها في الوردية يجعل الجميع يعمل بثقةٍ وهدوء، لأنها تعرف تفاصيل كل مهمة وتديرها بمهارة القائد”.

العودة إلى البيت الكبير:

بعد فترة توقفٍ مؤقتة، تتهيأ رانيا اليوم للعودة إلى مطار الخرطوم، المكان الذي شهد أولى خطواتها المهنية. عودتها ليست مجرد انتقالٍ وظيفي، بل رمزٌ لاستمرارية الأمل في بلدٍ عرف الأزمات لكنه لم يفقد روحه، هي عودةُ الطيور إلى أعشاشها، وعودةُ الخبرة إلى موطنها الطبيعي، وعودةُ الإصرار إلى مدرجٍ طال انتظاره ليُفتح من جديد.

يقول تقرير «طيران بلدنا» الذي وثّق سيرتها:”عودة رانيا إلى المطار هي إشارة واضحة إلى أن مطار الخرطوم سيظل نابضاً بالحيوية رغم كل التحديات، وأن أبناءه وبناته هم من سيعيدون إليه الحياة”

أثرها الإنساني قبل المهني:

ما يميز رانيا ليس فقط إنجازها الوظيفي، بل روحها الإنسانية التي جعلتها محبوبةً بين زملائها. تساند الأصغر سناً، وتدعم زميلاتها من النساء، وتُشارك في المبادرات التطوعية داخل المطار وخارجه، هي تؤمن بأن النجاح الفردي لا يكتمل إلا عندما يتحول إلى منصةٍ لإلهام الآخرين، ففي إحدى كلماتها التحفيزية لفريقها قالت:”قد تبدأ صغيراً، لكنك لا تبقى صغيراً إذا آمنت بعملك. المطار مكانٌ لا يرحم الخطأ، لكنه يكافئ المخلصين”

الطموح لا يعرف سقفاً:

تطمح رانيا في المستقبل إلى خوض تجربة أوسع في إدارة العمليات الجوية، وربما العمل على برامج تدريب للشابات السودانيات الراغبات في دخول مجال الطيران. حلمها أن ترى المزيد من النساء في مواقع القيادة داخل المطارات السودانية، وأن يتحول الطيران إلى مساحة مساواة وتمكين حقيقي.

وفي هذا السياق، يرى خبراء الطيران تحدثوا لـ”أفروشنقر” أن قصصاً مثل قصة رانيا ضرورية لتغيير الصورة النمطية حول المرأة العاملة في القطاعات الفنية والميدانية، مؤكدين أن السودان يمتلك كفاءات نسائية قادرة على المنافسة إقليمياً ودولياً، متى ما توفرت البيئة الحاضنة.

خاتمة: السماء ليست بعيدة:

رانيا جعفر عباس ليست فقط «رئيسة وردية» في مطار الخرطوم، بل رمزٌ لجيلٍ جديد من النساء السودانيات اللاتي قررن أن يكتبن قصص نجاحهن بأيديهن. من خدمة الأمتعة إلى قيادة الفرق، ومن التعامل مع المسافرين إلى إدارة العمليات، شقّت طريقها بثقةٍ وصبرٍ وعزيمةٍ نادرة، لتمثل اليوم، الوجه المشرق للطيران السوداني، وتذكّرنا بأن كل إنجاز كبير يبدأ بخطوة متواضعة. وبين مدارج المطار، حيث يلتقي الغروب بأضواء الطائرات، تهمس قصتها لكل من يحلم:”السماء ليست بعيدة… فقط آمن بنفسك، وابدأ من حيث أنت”.