
في مشهد طغت عليه الفخامة والعدسات المسلطة، خطفت الكاتبة والسيناريست المصرية مريم نعوم الأنظار على السجادة الحمراء لمهرجان الجونة السينمائي الدولي في دورته الثامنة لعام 2025. إطلالتها التي اتسمت بالبساطة الراقية، لم تكن مجرد اختيار جمالي، بل بدت كأنها بيان فني صامت، يعكس فلسفة صاحبة “سجن النسا” و”ليه لأ” في التعبير عن الذات بعيداً عن الصخب.
ففي الوقت الذي تتبارى فيه النجمات على استعراض آخر صيحات الموضة والإكسسوارات اللافتة، جاءت نعوم بفستان أسود أنيق، بتفاصيل متقنة تروي قصة حضور أنثوي واعٍ، يوازن بين الجاذبية والرقي، ويعيد تعريف الأناقة كأداة للتعبير الثقافي لا كاستعراض بصري.
فستان يحكي شخصية:
اختارت نعوم فستاناً بتصميم يجمع بين الكلاسيكية والحداثة، مصنوعاً من قماش حريري أسود ينسدل بسلاسة على الجسد دون أي مبالغة. الجزء العلوي جاء بقصة مستقيمة وكتف مكشوف، أضفى على الإطلالة لمسة أنثوية ناعمة، أما الجزء السفلي فتميّز بزخارف فضية وذهبية دقيقة منثورة بأسلوب هندسي، عكست بريقاً ناعماً تحت أضواء الكاميرات دون أن تفرض نفسها.
اللافت في التصميم كان التول الشفاف المنسدل من الظهر، والمطعّم بترصيع خفيف، يمنح الفستان حركة فنية هادئة أثناء السير، بينما زيّنت أطرافه حافة ذهبية لامعة أضافت توازناً بصرياً أنيقاً، في مزيج يليق بكاتبة تُعرف بدقتها في رسم تفاصيل شخصياتها، كما في انتقائها لما ترتديه.
أناقة بلا بهرجة:
انسجاماً مع طبيعتها المعروفة بالتواضع والهدوء، جاءت إكسسوارات مريم نعوم تحفها البساطة، اكتفت بساعة فضية وسوار بسيط، وحقيبة معدنية صغيرة بدرجات من الفضي والبرونزي، اختيرت بعناية لتتكامل مع الفستان دون أن تسرق الأضواء منه. لم ترتدِ قلادة، ولم تعتمد على أية زينة ملفتة، فالمظهر العام جاء مدروساً بدقة، يعكس شخصية تفضل الحديث عبر أعمالها لا عبر مظاهرها، حتى الحذاء ظل بعيداً عن أعين الكاميرات، في دلالة غير مباشرة على تركيزها على الجوهر لا الشكل، وهو ما لفت انتباه الكثير من المتابعين الذين وصفوا إطلالتها بأنها “أنيقة بالصمت”، وأقرب إلى ما يمكن تسميته بـ “الجمال المفكر”.
تسريحة تنطق بالقوة
شعرها القصير والمتموّج قليلاً، جاء كامتداد لهويتها الفكرية، فاختيارها لهذه التسريحة لم يكن محض قرار جمالي، بل رسالة مضمونة المعنى. الشعر القصير هنا بدا كرمز نسوي للاستقلال والثقة بالنفس، تزامن مع ما يعرف عنها من مواقف داعمة لقضايا المرأة وتمكينها في المجتمع، تسريحة كشفت عن ملامح طبيعية وغير متكلّفة، وجاءت متناغمة مع مكياج ناعم بألوان ترابية، مع لمسة وردية على الشفاه، أظهرت إشراقة وجهها الطبيعي دون افتعال. والنتيجة: حضور أنثوي هادئ يحمل في طياته قوة ناعمة تشبه بطلاتها في الأعمال الدرامية التي كتبتها.
رسالة بلا كلمات:
مرور مريم نعوم على السجادة الحمراء لم يكن استعراضاً، بل امتداداً لما تمثّله كصوت نسائي مختلف في المشهد الثقافي العربي، من خلال بساطتها اللافتة، بعثت برسالة ضمنية: أن الأناقة لا تعني التكلّف، وأن الفن لا يحتاج إلى ضجيج كي يُحدث الأثر، لتأسر العديد من رواد المهرجان الذين وصفوا إطلالتها بأنها “تكتب حكاية”، لما فيها من صدق وتجريد من كل ما هو زائف، وتأتي التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي مشيدة بالظهور “الذي يكرّم الجوهر دون أن يتنكّر للشكل”، معتبرين أن نعوم أعادت تعريف مفهوم الإطلالة الفنية في زمن تكثر فيه المظاهر وتبهت فيه المعاني.
احتفاء بكاتبة أثّرت المشهد:
يأتي حضور نعوم في مهرجان الجونة هذا العام كنوع من الاحتفاء برمزية فكرية وثقافية، إذ تُعد من أبرز الكاتبات في الدراما العربية المعاصرة. أعمالها التي تنوعت بين الواقعي والإنساني، ناقشت قضايا المرأة والحرية والعدالة الاجتماعية، وكسرت الكثير من الصور النمطية في الدراما التلفزيونية.
من “واحة الغروب” الذي سلّط الضوء على التداخل بين السياسة والهوية، إلى “سجن النسا” الذي كشف عن قسوة الواقع الاجتماعي، مروراً بـ “ليه لأ” الذي فتح أبواباً للنقاش حول حرية الفتيات في مجتمعات محافظة، رسخت نعوم مكانتها كصوت مؤثر وصادق، له نكهته الخاصة في الكتابة والبصمة التي لا تُخطئها عين.
أكثر من إطلالة… فلسفة حياة:
ما قدمته على السجادة الحمراء في الجونة لم يكن مجرد لحظة تألق عابرة، بل تجسيد عملي لرؤيتها في الحياة والفن. كما تعوّد جمهورها على شخصياتها النسائية التي تجمع بين الصلابة والرحمة، بين الجرأة والهدوء، جاءت هي على السجادة الحمراء كأنها إحدى بطلات أعمالها، تمشي بثقة، تصنع حضوراً لا يُنسى، دون أن تنطق بكلمة، في وقتٍ باتت فيه السجادة الحمراء مناسبة لتضخيم الصورة على حساب الجوهر، جاءت مريم نعوم لتعيد التوازن. اختارت أن تكون ذاتها، بكل ما تحمله من فكر وتجربة وصدق، وهو ما جعلها محط إعجاب ليس فقط لجمهورها، بل أيضاً لزملائها وصناع الفن.
حين تكتب الإطلالة بياناً:
إذاً إطلالة موغلة في الورافة، لم تكن مجرد ظهور على بساط أحمر، بل بياناً فنياً وجمالياً ينتمي إلى مدرسة نادرة في المشهد الفني العربي، مدرسة تؤمن بأن الشكل يجب أن يخدم الفكرة، وأن الأناقة يجب أن تكون امتداداً للوعي لا بديلاً عنه.
