
تقرير: محمد فتحي
في قلب مدينة تطوان المغربية، عند ملتقى الأزقة العتيقة وسواحل البحر الأبيض المتوسط، ينبض مهرجانٌ سينمائيٌ صار عبر ثلاثين عاماً مرآةً للعلاقات الثقافية بين ضفتَي المتوسط، ويعدّ اليوم من أبرز التظاهرات الفنية في المملكة، إن لم يكن في المنطقة برمتها. إنّها مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط، الذي تأسّس عام 1985، وكرّس منذ انطلاقه مهمّة التعريف بالإبداع السينمائي المتوسطي، وتبادل التجارب بين مختلف المدارس السينمائية، تحت شعار الانفتاح والاختلاف والإبداع.
ميلادٌ واكتمالٌ: تطوان تكتب سينما المتوسط
فالمهرجان ذائع الصيت الذي سيسدل الستار على فعالياته الثرة مساء اليوم، ولدت فكرته في مدينة تطوان، إحدى بوّابات المغرب على المتوسط، عبر جمعية «أصدقاء السينما بتطوان»، التي أرادت جعل هذه المدينة منصة للسينما في ضفّتها الشمالية.
فمنذ الدورة الأولى، شكّل المهرجان جسراً بين صناع السينما من المغرب وأوروبا والجنوب المتوسطي، وفتح مسارات لتعاون وإنتاج لم تكن شائعة في تلك المرحلة. المدينة العتيقة، بأسوارها وبيوتها البيضاء، تحولت لمعهَد سينمائي تُعرض فيه الأفلام وتُحتضن فيه الندوات وتُدار فيه ورشات التكوين، محوّلة من مجرد مكان مرور إلى عاصمة فكر ثقافي وبصري.
برنامجٌ محتدِثٌ وتطويرٌ مستمر
في دورته التاسعة والعشرين، احتفى المهرجان بثلاثة عقود من العطاء، حيث تضمّن برنامجه عدة محاور: عرض أفلام طويلة (روائية ووثائقية) ضمن المسابقة الرسمية، ورشات تكوينية للطلبة والمخرِجين الشباب، ومحترفـات («مُحترَفات تطوان») لدعم الأفلام قيد الإنتاج.
وخلال هذه الدورة (الثلاثين) التي إلتأمت في الفترة من 25 أكتوبر إلى 1 نوفمبر 2025، تمّ اختيار هيئة تحكيم من الوزن الثقيل، برئاسة المخرج الإيطالي ليوناردو دي كوستانزو، وعضوية أسماء سينمائية من المغرب ومصر والبرتغال. كما أعلن المهرجان عن جوائز مرموقة، من بينها الجائزة الكبرى «تمودة»، وجائزة لجنة التحكيم «محمد الركاب»، وجائزة «عزّ الدين مدور» للعمل الأول؛ من المنتظر أن تقلد بها أصحاب الأعمال الفائزة مساء اليوم.
التحديات: دعم مادي ولوجستي… وضرورات المستقبل
رغم ما يحقّقه المهرجان من إشعاع، فإنه ليس بمنأى عن التحديات. ففي أبريل 2025، تمّ تأجيل الدورة الثلاثين التي كانت مبرمجة في أبريل إلى أكتوبر، بسبب «الصعوبات المالية واللوجستية» التي تواجه المهرجان في الظروف الراهنة. البيان أشير فيه إلى أن الدعم الحكومي لم يعد كافياً، وأن مشاركة القطاع الخاص لا تزال متواضعة، وهو ما يحجم الاستمرار ويستدعي إعادة نظر في آليات التمويل.
وكانت الأرقام قد كشفت أن الدعم الممنوح سابقاً للمهرجان يقدّر بـ1.300.000 درهم مغربي، مما يجعله من أكبر التظاهرات السينمائية الوطنية من جهة التمويل.
لماذا تطوان؟ المدينة والسينما ومرحلة المتوسط
تكمن قيمة مهرجان تطوان في موقعه الجغرافي والثقافي: مدينة تتوسط التاريخ، وتشهد تقاطعات بين العرب والأمازيغ والأوربيين، وعموم أفريقيا، وتطلّ على البحر حيث التبادل عبر العصور. هذا الموقع جعلها رمزيةً مناسبة لسينما المتوسط التي لا تكتفي بكونها صناعة أو عرضاً، بل تجربة للحوار والانفتاح. في كلمات رئيس المهرجان أحمد حسني: «السينما ليست ترفاً، بل ضرورة» في زمن «الذي نجتازه والذي يتسم بقدر كبير من الارتباك». ومن هذا المنطلق، فإن المهرجان يتجاوز كونه مجرد منتدى سينمائي ليصبح سفراءً للثقافة المتوسطية، ومسرحاً لتبادل القضايا: الهوية، الواقع الاجتماعي، التحديات البيئية، العلاقة بين الشمال والجنوب.
أبرز المحطات والتكريمات: وجوه على الشاشة والمتوسط
شهد المهرجان عبر تاريخه تكريماً لأسماء بارزة من السينما المتوسطية، من بينها المخرج المغربي نبيل عيوش، والمخرجة الإسبانية عايدة فولش، والمخرج الفرنسي الوثائقي نيكولا فيليبير. هذا الحراك السخي لوجوه من المغرب وأسبانيا وفرنسا، يؤكد غرض المهرجان في تأسيس سياق تفاهم سينمائي متعدد اللغات والخلفيات. كذلك، شهدت الدورة السابقة عروضاً أفلام بارزة وحضوراً نقادياً دولياً، كما تفتحت منصاته لدعم الإنتاج والتكوين، مما يعكس تكاملاً بين البعد الفني والمهني.
أيّ تأثير؟ اقتصاديا وثقافيا وسياحياً
بعيداً عن الفن، يشكّل المهرجان محركاً اقتصادياً للمدينة والمنطقة، من فنادق دبت فيها حركة اقتصادية، شوارع تتزيّن بالأفيشات السينمائية، ومقاهٍ تناقش الأفلام. يُضاف إلى ذلك أنه يساعد في جعل تطوان وجهة سياحية وثقافية في المغرب الشمالي، لا مجرّد مدينة سياحية شاطئية، بل وجهة للتنوّع الثقافي. وفي السياق المغربي، يعزز المهرجان من صناعة السينما المحلية ويمنحها مساحة لعرضها أمام جمهور متخصص، ما يسهم في النهوض بالقطاع.
لماذا يهمنا من «الشرق الأوسط»؟
إذا نظرنا إلى العالم العربي؛ اليوم، نجد أن السينما المتوسطية هي جسراً بين أوروبا والشمال الأفريقي، وبين الأجيال الجديدة والقضايا المعاصرة؛ ومهرجان تطوان هو أحد منابر هذا الجسر، من السودان والعالم العربي، تكمن قيمة هذا الحدث في قراءة التجارب المتبادَلة، وفي فهم كيف يمكن للسينما أن تكون أداة للحوار، لا مجرد عرض فيلم، بل مساحة مشتركة للفكر والثقافة.
الختام: نحو مستقبل يتجدّد
مع احتفائه بالذكرى الثلاثين، يقف مهرجان تطوان في مفترق طرق؛ بين ضرورة إعادة التمويل، ورغبة في توسيع التأثير، وبين الرغبة في البقاء وفياً للجذور والمتوسّط. وكما قال الكاتب العام للمهرجان محمد الهاني: «لا يمكننا أن نتخيّل مدينة دون قاعات للسينما، ودون مهرجانات ننتظرها بشغف». إن ما يبقى ثابتاً هو أن تطوان، بكل شوارعها وأزقتها وبحرها، تواصل رسم السينما كجزء من تأثيرها الاجتماعي والثقافي، وتؤكد أن الفن لا هوية له سوى الهوية الإنسانية المشتركة.
في الدورة المقبلة، ننتظر أن تسلط الأضواء مجدداً على «تمودة» وعلى جوائز العمل الأول، وأن تُعرض أفلامٌ تُحدث فرقاً، ليس فقط على الشاشة، بل في أذهاننا، في عالمنا الأفريقي والعربي الذي يبحث دوماً عن مساحة للتلاقح والتجديد.
وفي نهاية الأمر، يظل مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط ليس مجرد موعد في التقويم الثقافي، بل تعهداً بأن السينما قادرة أن تقودنا إلى ما أبعد من الطاولات الحوارية، إلى تجارب نعيشها، ونحرّر بها ما فينا من شغف بالحياة والإبداع.













