
روما: afroshongir
في لحظة صمت بدت أوروبا فيها ممتنة أكثر من حزينة، ودّعت القارة العجوز واحدة من أنبل رموزها الأكاديمية والإنسانية، صوفيا كورادي، التي عُرفت بلقب “ماما إيراسموس”، بعد أن فارقت الحياة عن عمر ناهز الـ 91 عامًا في مدينة روما أمس، تاركة وراءها إرثًا علميًا وإنسانيًا شكّل مستقبل ملايين الطلاب وقرّب بين شعوب القارة المتعددة الثقافات.
ليست هناك كلمات تُختصر بها حياة امرأة غيّرت مفهوم الحدود في أوروبا، ليس عبر السياسة أو الاقتصاد، بل من خلال التعليم، حين جعلت من فكرة بسيطة وُلِدت من معاناة شخصية، مشروعًا قاريًا يُنقل من جيل إلى جيل تحت اسم برنامج “إيراسموس”، الذي غيّر حياة أكثر من 16 مليون طالب منذ انطلاقه عام 1987، وفقًا للمفوضية الأوروبية.
من منحة فولبرايت إلى رفض الشهادة
صوفيا كورادي التي وُلدت في إيطاليا عام 1934، حصلت على منحة فولبرايت المرموقة في ريعان شبابها التي نقلتها إلى قلب نيويورك حيث التحقت بـجامعة كولومبيا، إحدى أعرق الجامعات الأميركية، لتحصل على درجة الماجستير في القانون، فُوجئت عند عودتها إلى وطنها الأم، بعدم الاعتراف الرسمي بشهادتها،
موقف تعسفي لم يقف عقبة أمامها، بل حولته إلى فرصة، تقول عنه في مقابلة نادرة عام 2018: “كانوا يرفضون شهادتي، فقررت أن أساعد شباب أوروبا كي لا يواجهوا نفس ما واجهته. التعليم لا يجب أن يُقيَّد بالجغرافيا.”
تمر الأيام، وتحمل الشابة آنذاك حل تلك القضية على عاتقها، لتنبثق من تجربتها الشخصية فكرة برنامج تبادل طلابي عابر للحدود، يؤسس لمرحلة جديدة في التعاون الأكاديمي الأوروبي، استغرقت سنوات من النقاش والاقتراحات، حتى رأت النور رسميًا في عام 1987 تحت اسم “إيراسموس”، تيمنًا بالفيلسوف الإنساني الهولندي “إيراسموس روتردام”، لم يكن برنامجاً أكاديمياً فحسب، بل مشروعًا سياسيًا وثقافيًا بامتياز. فهو، كما كانت تصفه كورادي، “مهمة سلمية عبر التعليم”، لا تقل أهمية عن أي مشروع دفاعي أو اقتصادي في أوروبا.
وخلال أكثر من ثلاثة عقود، شارك في البرنامج حوالي 16 مليون طالب من دول الاتحاد الأوروبي ودول شريكة أخرى. وقد مكّن البرنامج ملايين الشباب من الدراسة في جامعات خارج بلدانهم الأصلية، ما ساهم في تعزيز التفاهم الثقافي والانفتاح، وأنتج ما يُعرف اليوم بـ “جيل إيراسموس”، الجيل الأوروبي العابر للحدود والرافض للانغلاق.
“ماما إيراسموس” في عيون أوروبا
مع إعلان وفاتها، انهالت عبارات التكريم من مختلف العواصم الأوروبية. نعى وزير الخارجية الإيطالي أنتونيو تاياني الراحلة قائلاً: “صوفيا كورادي ألهمت حياة ملايين الشباب الذين سافروا ودرسوا واحتضنوا ثقافات مختلفة. كانت جسرًا بين الشعوب.”
وكتب الوزير الفرنسي المنتدب للشؤون الأوروبية بنجامان حداد: “أجيال من الشباب الأوروبيين مدينة لها بالامتنان. إرثها لا يُقاس فقط بعدد الطلاب، بل بعدد الأفكار والجسور التي بنتها”، أما رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، فقد نعتها في بيان رسمي، قائلة: “رحلت واحدة من أبرز صانعات الاتحاد الثقافي الأوروبي. لقد تركت في قلب كل بيت أوروبي أثراً لا يُنسى.”
دور أكاديمي وإنساني يتجاوز الحدود
لم تكن كورادي صانعة “إيراسموس” فحسب، بل كانت باحثة بارزة في قضايا الحق في التعليم وحقوق الإنسان، عملت لسنوات في جامعة “روما 3″، وشاركت في بحوث لصالح لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، ودرّست في معهد لاهاي للقانون الدولي، وكذلك في مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، لتساهم من بعد في صياغة تقارير مهمة تتعلق بالحق في التعليم كجزء من الحقوق الأساسية للإنسان، معتبرة أن “الجهل لا يصنع السلام”، وأن الاستثمار في التعليم هو أول خطوط الدفاع عن المجتمعات.
مشروع حياة لا ينتهي
كان من الملفت أن كورادي، رغم تقدمها في العمر، ظلت تتابع عن كثب تطوّر البرنامج الذي أسسته، وأكدت في لقاءات سابقة أنها كانت تحلم بتوسيع البرنامج ليشمل مناطق النزاع خارج أوروبا، معتبرة أن التعليم هو أنجع دواء ضد العنف والتطرف، بل إن بعض من عملوا معها أكدوا أنها كانت تحدثت قبل وفاتها عن أهمية تضمين البرنامج في المناطق العربية والإفريقية، وربطه بمشاريع تنموية تُمكّن الشباب من بناء مجتمعاتهم.
إرث خالد في ذاكرة القارة
بعد أكثر من 35 عامًا على انطلاق برنامج “إيراسموس”، يمكن القول إن كورادي لم تؤسس مجرد مشروع تعليمي، بل أطلقت حركة ثقافية واجتماعية أوروبية ساعدت في ترسيخ مفهوم المواطنة الأوروبية، وساهمت في بناء هوية شبابية عابرة للحدود، تعترف بالاختلاف وتحتفي به، يكاد لا يخلو بيت أوروبي من قصة تتعلق بـ “إيراسموس”؛ قصص صداقات وحب، وبدايات لمشاريع حياتية، بل وحتى عائلات تأسست بسبب هذا البرنامج، وهكذا تحوّلت كورادي من أستاذة جامعية إلى “أم روحية” لجيل كامل يؤمن أن القلم قد يكون أقوى من السلاح.
الوداع الأخير… وتكريم مستحق
من المنتظر أن تُنظم عدة فعاليات تكريمية في مؤسسات أوروبية مختلفة خلال الأيام المقبلة، أبرزها في بروكسل وروما وستراسبورغ، إلى جانب إطلاق منح دراسية تحمل اسمها. كما يجري الحديث عن إطلاق اسمها على إحدى القاعات الكبرى في مقر المفوضية الأوروبية أو إحدى الجامعات الشريكة في برنامج إيراسموس.
في عالم يكثر فيه الحديث عن الجدران والحدود والاختلافات، اختارت صوفيا كورادي أن تبني الجسور. لم تكن سياسية، ولا مسؤولة في مؤسسة دولية ضخمة، بل أكاديمية آمنت بأن التغيير يبدأ من الفكرة، ومن الفصل الدراسي، ومن تجربة الطالب الأولى خارج بلده، لتفقد برحيلها ضميرًا فكريًا وإنسانيًا نادرًا. لكنها تخلّف وراءها نموذجًا للمرأة التي استطاعت أن تغيّر العالم بهدوء، وبإيمان راسخ بأن السلام الحقيقي يُصنع في قاعات الجامعات، لا في قاعات المؤتمرات.
