
بورتسودان: محمد فتحي
في زمنٍ تتراجع فيه دور مؤسسات الدولة، وتضيق أبواب العيش، خرجت من بين ركام الحرب السودانية مبادرة إنسانية أعادت تعريف معنى «المسؤولية الاجتماعية» خارج القوالب الرسمية. مبادرة صغيرة بدأت بخمس وجبات فقط في مدينة بورتسودان، لتتحول بعد عام واحد إلى مشروع يومي يوزّع أكثر من 800 وجبة متكاملة للأطفال في أحيائها، تحت اسم «بروماتيك – سلة الغذاء»، يقودها الفنان والموسيقي حسام عبد السلام، الذي تحوّل من العزف إلى الطهي، ومن المسارح إلى ساحات الإطعام.
من سبع وجبات إلى 861 وجبة
يروي حسام عبد السلام تفاصيل التحوّل قائلاً:”في فبراير 2024 بدأت في بورتسودان مبادرة صغيرة لتوفير وجبات صحية للأطفال المحتاجين. كنت أوزّع من 7 إلى 15 وجبة يوميًا مشيًا على الأقدام، لأنني اضطررت لتأجير سيارتي لتأمين احتياجات الحياة. لكن البركة كانت حاضرة، وكنت أشعر أن الفكرة تكبر دون أن أدري”.
لم يمر وقت طويل حتى أصبحت المبادرة تتنقّل على ظهر دراجة هوائية، ثم على موتر صغير، وبعدها على سيارة، لتتحول من فكرة فردية إلى عملٍ تطوعي متكامل. يقول حسام: “بدأت أوزع بين 150 إلى 400 وجبة في الأسبوع بمستشفى البلك للأطفال بأمدرمان، ثم تطورت الفكرة إلى تكية متجولة تحمل اسم (بروماتيك) تساهم في دعم التكايا المحلية بوجبات نوعية مخصصة للأطفال”.
“نقطة التحول» بعد تحرير الخرطوم
يصف حسام يوم 11 أبريل 2025 بأنه يوم «التحول الكبير»، فبعد أسبوعين من تحرير الخرطوم من قبضة المليشيات، قرر إعادة تشغيل تكية «بروماتيك» في العاصمة كمشروع متنقل يخدم الأحياء المتضررة، يقول عن التجربة:”بدأنا من حي بري كوريا بـ60 وجبة فقط، ثم توسعنا إلى بري أبوحشيش شمال وجنوب، ثم بري الدرايسة، والمحس، والشريف، والمربعات. وبعد أربعة أشهر، انتقلنا إلى امتداد ناصر، ومنها إلى المقرن. أمس فقط وصلنا إلى 861 وجبة في يوم واحد… كانت لحظة إدراك حقيقية لمعنى البركة”.
بركة الفكرة وبصمة الفن:
المفارقة أن صاحب المبادرة لم يكن ناشطًا اجتماعياً، بل موسيقار معروف في الساحة السودانية. لكنه اختار أن يجعل شهرته جسرًا للخير. يقول:
“اعتمدت في التمويل على ثقة الناس في اسمي، لا على مؤسسة أو منظمة. كثيرون يعرفونني كموسيقي، لكن الآن صاروا يرون في (بروماتيك) هوية مختلفة، مرتبطة بإطعام الأطفال، لا بالعزف على المسرح”.
هكذا تحولت معرفة الجمهور باسمه إلى شبكة دعمٍ اجتماعي، حيث يساهم الأفراد بشراء وجبات كهدايا للأطفال. ومع مرور الوقت، صار لـ«بروماتيك» جمهور جديد لا يعرف حسام كموسيقي، بل كفاعل خيرٍ يحمل قدرته على التنظيم والابتكار إلى مجالٍ لم يكن مألوفًا للفنانين من قبل.
المسؤولية الاجتماعية في زمن الحرب:
تأتي تجربة «بروماتيك» في لحظة فارقة من تاريخ السودان، حيث أفرزت الحرب واقعًا مأساويًا خلّف ملايين الأطفال في مواجهة الفقر وسوء التغذية، وبغياب المؤسسات الرسمية وضعف المنظمات، ظهرت مبادرات محلية يقودها مواطنون لملء هذا الفراغ، في هذا السياق، تبدو «بروماتيك» أكثر من مجرد مبادرة إطعام؛ إنها نموذجٌ للمسؤولية الاجتماعية الذاتية، حيث تتكئ على روح المجتمع، لا على التمويل الدولي.
تقول الباحثة الاجتماعي رجاء شوكت لـ«afroshongir”: “ما فعله حسام عبد السلام هو إحياء فكرة التكية السودانية القديمة بروح جديدة. لقد دمج بين الفكرة التقليدية – إطعام الطعام – ومفاهيم التغذية الحديثة والوعي الصحي، وجعلها قابلة للتطبيق في أزمنة الحرب”.
الوعي الغذائي كأداة مقاومة:
يتبنى مشروع المبادرة فلسفة واضحة: الوجبة ليست فقط لسد الجوع، بل وسيلة لمكافحة أمراض سوء التغذية التي تهدد الأطفال في مناطق النزوح والمدن المتأثرة بالحرب، يوضح حسام أن كل وجبة تُعد بمقادير مدروسة لضمان توازن العناصر الغذائية، ويضيف: “هدفنا ليس فقط أن نُشبع الأطفال، بل أن نقيهم المرض. نحاول تقديم وجبات آمنة ومتكاملة ترفع المناعة وتعيد بناء الجسم، خصوصًا في ظل ضعف الرعاية الصحية”.
من هنا اكتسبت المبادرة بُعدًا تنمويًا، إذ بدأت تشكّل وعيًا جديدًا لدى الأمهات حول أهمية التغذية السليمة، لتتحول من «تكية طعام» إلى منصة توعية صحية واجتماعية في الوقت نفسه.
شبكة الثقة… رأس مال اجتماعي:
تموّل المبادرة بالكامل عبر تبرعات الأفراد، لا ميزانيات ضخمة ولا دعم حكومي. يقول حسام:”أحيانًا المساهمة بتكون بسيطة جدًا، ألفين أو ألفين وخمسمية جنيه سوداني لإطعام طفل واحد. لكن مجتمعةً تصنع المعجزات. في النهاية هي شبكة ثقة بيني وبين الناس… ثقة في النية قبل الفعل”
هذه الشبكة تمثّل ما يسميه الاقتصاديون «رأس المال الاجتماعي» — الثقة، والشفافية، والتضامن الشعبي — وهي القيم التي صمدت في السودان رغم انهيار البنى الاقتصادية والسياسية، يقول عنها الدكتور محمد الأمين إبراهيم، الباحث في الاقتصاد التنموي، أن تجربة بروماتيك «تؤكد أن المسؤولية الاجتماعية ليست رفاهية، بل وسيلة بقاء»، مضيفًا أن «المجتمع السوداني أعاد عبر مثل هذه المبادرات اكتشاف نفسه كمصدر للحماية والأمل”.
الأطفال شركاء في الحلم:
من أجمل ما يميز التجربة، أن الأطفال أنفسهم أصبحوا جزءًا من منظومة العطاء. يقول حسام مبتسمًا:”كثير من الأطفال الذين كانوا يستلمون وجبات بروماتيك، صاروا يساعدوننا في توزيعها. وبعضهم صاروا يكتبون على العلب الصغيرة (شكراً)، وكأنهم يعيدون لي الدرس الذي بدأت من أجله: إن الخير لا يُعلَّم، بل يُورّث بالمحبة”.
تلك الروح الجماعية حولت «بروماتيك» إلى مساحة لقاءٍ إنساني بين فئات المجتمع. في أحياء الخرطوم المنهكة، صار مشهد شاحنة صغيرة توزع وجبات نظيفة للأطفال رمزًا للأمل وسط الدمار.
من المحلية إلى الأفق الإنساني:
يؤكد مراقبون أن مبادرة «بروماتيك» تمثل نموذجًا قابلًا للتعميم في بلدان أخرى تعيش ظروفًا مشابهة. فهي تقوم على معادلة بسيطة وفعّالة هي مبادرة فردية نزيهة، دعم شعبي متدرج، شفافية في الإنفاق والتوزيع، ارتباط عاطفي مباشر بالمستفيدين.
ويرى الخبير التنموي حسين جاري، من بعثات الأمم المتحدة، أن هذه النماذج «تجسّد التنمية من القاعدة إلى القمة»، مضيفًا أن «بروماتيك ليست مجرد مبادرة محلية، بل ممارسة وعيٍ مدنيّ راقٍ في زمنٍ سقطت فيه المؤسسات”.
البركة كقيمة مجتمعية:
“البركة” كلمة ظل حسام يرددها في حديثه. يقول إنها ليست غموضًا دينيًا، بل ثمرة الإخلاص في النية والصدق في العمل.البركة هي لما تعمل بحب، وتلقى إنك قدرت تعمل أكتر مما كنت تتوقع. من 7 وجبات إلى 861 وجبة… دي البركة الحقيقية”.
من الموسيقى إلى الطهي… ومن الفرد إلى الجماعة
هكذا يختصر حسام عبد السلام قصته. فبينما كانت الموسيقى لغته الأولى للتعبير، صارت الوجبة لغته الثانية للمحبة، إنها حكاية فنانٍ اكتشف أن الفعل الاجتماعي لا يقل جمالًا عن اللحن، وأن النغمة يمكن أن تتحول إلى لقمة، تُطعم وتداوي وتُعيد للناس إيمانهم بأن الخير لا يموت.
خاتمة:
في بلدٍ أنهكته الحرب وشتّتت أبناءه، تولد مبادرات مثل «بروماتيك» لتعيد للمجتمع إحساسه بالمسؤولية والكرامة. إنها ليست فقط عن الطعام، بل عن معنى البقاء الإنساني حين ينهار كل شيء، من 7 وجبات إلى 861 وجبة… من فكرةٍ فردية إلى شبكة عطاءٍ حيّة… من الحرب إلى البركة، ذلك هو السودان حين يطبخ الأمل من رماد الحرب.













