
تقرير: محمد فتحي
في لحظةٍ بدت أشبه بوقفة تأمل في مرآة الذاكرة الصحفية السودانية، أعلنت نقابة الصحفيين السودانيين فوز الصحافي البارز فيصل محمد صالح بجائزة «إيقاد للتميز في الصحافة مدى الحياة»، في تقديرٍ وُصف بأنه «مستحقّ» لمسيرة امتدت لعقود، حمل فيها الرجل قلمه كمن يحمل رسالة، ووقف فيه على الضفاف الصعبة للمهنة عندما تباينت الخطوط الفاصلة بين الواجب والخطر، وبين الحقيقة وضغوط اللحظة.
ولم يكن الإعلان، بحسب بيان النقابة، «طارئاً أو عابراً»، بل جاء امتداداً لمسار طويل من العطاء والمهنية والالتزام الأخلاقي الذي شكّل سيرةً المهنية الفريدة من نوعها، سواء في غرف التحرير أو قاعات التدريب أو ساحات العمل العام، حيث ظل صالح واحداً من الأصوات التي تُسمِع ولا تُساوم، وتؤكد أن الصحافة تُكتب بالضمير قبل الحبر.
مسيرة تتوَّج بالثبات على المبدأ
على مدى سنواتٍ ممتدة، ظل فيصل محمد صالح أحد الوجوه الأكثر حضوراً وتأثيراً في المشهد الإعلامي السوداني. عرفه الجمهور صحافياً صارماً في معايير الخبر، وكاتباً هادئ النبرة لكنه عالي الموقف، يقترب من القضايا الشائكة بقدرٍ كبير من المهنية، لا يرفع صوته لكنه يُسمع جيّداً، ولا يختبئ خلف الشعارات بقدر ما يرفع أسئلة المسؤولية.
وتميّز صالح برحلة مهنية تنقّل خلالها بين مؤسسات صحفية محلية وإقليمية، قبل أن يتجه إلى مساحات التدريب الإعلامي والبحث في أخلاقيات المهنة. بقي، طوال تلك السنوات، ثابتاً على مبدأ يرى أن دور الصحافي ليس الصدام من أجل الصدام، بل ممارسة دور «الشاهد الأمين» الذي يُنير الطريق ويترك للناس حرية الحكم.
جائزة تتجاوز حدود التكريم
جائزة «إيقاد للتميز في الصحافة مدى الحياة» لا تكتفي عادة بتقدير مسيرة مهنية فحسب، بل تهتم بسردية التأثير والقدرة على تشكيل وعي عام، داخل مجتمعات تعاني تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية. ومن هنا، بدا منح صالح هذه الجائزة ليس فقط تتويجاً لصحافي مخضرم، بل اعترافاً بدور الصحافة السودانية في واحدة من أكثر مراحلها تعقيداً.
ويشير بيان نقابة الصحفيين إلى أن الجائزة «تأتي تتويجاً لمسار لم يتخلّ فيه فيصل عن أخلاقيات المهنة مهما تبدلت الظروف»، في تلميحٍ واضح إلى تلك السنوات التي واجه فيها الصحافيون السودانيون تضييقاً سياسياً، وأسئلة وجودية عن معنى الاستمرار في الكتابة وسط عواصف التحوّل.
شمعة في عتمة المشهد السوداني
يأتي هذا التتويج في وقت يشهد فيه السودان واحدة من أعقد المراحل في تاريخه الحديث، حيث الحرب والانقسام وتداعيات الصراع التي أثّرت على كل مناحي الحياة، من السياسة إلى الاقتصاد وحتى الصحافة التي دفعت أثماناً قاسية من ضغوط ونزوح وتشتت مؤسساتها وطاقاتها.
وبينما تراجعت مساحات العمل، بقيت نماذج كفيصل محمد صالح شاهدة على قدرة الصحافي السوداني على التمسك بدوره، مهما ضاقت المساحات أو غابت منصات النشر. ففي كل مرة بدا فيها المشهد رمادياً، كان الرجل يستعيد يقينه بأن الصحافة «مهنة تُمارس من أجل الناس لا من أجل السلطة”.
لحظة اعتراف… ورسالة للمستقبل
حمل تكريم صالح أيضاً رمزية خاصة لدى الوسط الصحفي، إذ رأى فيه كثيرون لحظة استعادة لثقة تحتاجها المهنة بشدة، في ظل تحديات مهنية وأخلاقية تواجه الصحافيين في بيئة متشظية، فالرجل ظل، عبر سنوات، صوتاً يدعو إلى التجويد، والالتزام بالمعايير، والابتعاد عن التشنج، ليقدّم بذلك نموذجاً للصحافي الذي يربط بين الموقف والمسؤولية.
وتبدو الجائزة، في أحد جوانبها، بمثابة رسالة تُوجَّه للجيل الجديد من الصحافيين السودانيين: أن الاستقامة المهنية ليست خياراً فحسب، بل طريق طويل قد يكون شاقاً لكنه في النهاية يُثمر تقديراً صادقاً يأتي «في وقته»، كما وصفه بعض زملائه.
خاتمة
بهذا التكريم، تضيف «إيقاد» صفحة جديدة في سجل صحافي ظل يمضي في طريقه بثباتٍ وهدوء، أهّله من قبل، الفوز بجائزة بيتر ماكلر للشجاعة والنزاهة في مهنة الصحافة، فيما تصدح نقابة الصحفيين السودانيين بإعلانٍ يفوح بفخرٍ مهني، كأنها تقول إن تقدير القامات يبدأ دائماً من الاعتراف بأثرها. وبين سطور هذا التتويج، تقف سيرة فيصل محمد صالح مثالاً لصحافي اختار أن يكون «ضميراً للمهنة»، وأن يظل وفيّاً لرسالة الصحافة مهما عصفت بها الظروف.













