
وقناصة البوليس تحصد أربعة من أبنائها في (كدِنتكار) وقُراها تغلي كالمرجل في وجه ارهاصات إقامة سد كجبار، بعث الفنان النوبي محمد إبراهيم كبوش بهذه الرسالة للأمة النوبية من مدينة جدة السعودية في العام 2007م، ، يتنبأ فيها بدولة العدالة، فهو الذي عرفه الجميع هنالك صاحب موقف مدني وإنساني حازم، متشبث بخيوطِ الحلم، حلم وطن يسع الجميع، هذا الحلم العنيد ، الذي لم يمل كبوش بعد في مطاردته و إن عمل لأجله ردحاً من الزمان، يبني لنا صروحًا من أمل، من موسيقى طازجة، من كلمات لا تخون ذاكرة الأجيال، بل تحقنهم بمصل المقاومة وإكسير القوة، رافعة ضدّ التّفاهة، وطريق قويم للحق والخير والجمال في مسيرة فنية تنويرية نضالية جسورة.
يشكّل كبوش حضور آخاذ وآسر في خارطة الغناء النوبي، لأنه عمل بجد في أن يفتح بصيرة الروح، معززاً الارتباط المقدس بالأرض، بحياكة سحر الطبيعة في سكونها وجمالها على امتداد تلك القرى التي تراصت بعناية على شاطئ النيل الخالد، لأشعار وأغان ملهمة، بلغة ألُوفة كالناي والنبق وقناديل الذرة و(قهوة الدغش)، وقف عبرها مدافعاً جسوراً لفجر الكادحين، يتتبع خطاهم الحالمة، بخاطر مسكون بالحب، (راكز يصول..لا أنّ ولا حنى للجباه) مُصِراً أن يضيء عتمة الأيام.
مسيرة فنية بدأت في العام 1978 بسوح مدرسة صواردة المتوسطة، حينها كان (ملك الأغنية النوبية) تلميذا بجانب رفيق دربه الفنان عباس عثمان، لتنضج سعيه الجامح نحو الريادة على نار هادئة بمدرسة عبري الثانوية بالتنافسية الفنية المحتدمة في (ليالي السمر) آنذاك بين عدد من نجوم اليوم، وتتجلى المسيرة عميقاً بجزالة اللغة، وتحتضن مع الأيام عشرات الأغاني الخالدة، غنى فيها كبوش لأمة نوبية مثقلة بجراحات كثيرة ورثتها بعمر الدولة السودانية، من تهجير قسري في شمال وجنوب الوادي، وارهاصات إقامة المزيد من السدود لإفراغ منطقتها من أي وجود انساني في شمال السودان.
ولاهتمامه البالغ بالمحافظة على اللغة والتراث، يطيل انتظار جماهير الفنان محمد إبراهيم كبوش لميلاد أغانيه، لتأتي بعدها محتشدة بكم هائل من البلاغة التي اشتهر بها وسط أقرانه من المبدعين، لتكون (فنتِن أيننقا إيق سكا قوجن ماجقا من مِدي وونوبة، إلّي وو كُدود إلّى، شورتِن كُدّي، وو ألين أشري، إرِ كِمي نلوسلي) زاداً لنا نُبدد بها وحشة الغربة، فأغانيه تيه أسمى عند حافة الروح، معبقة بعطر الجروف وأنين السواقي، تسير بنا نغمة نغمة في فصول العمر، وتداعب الحنين للنوبة، ونحن نردد (ووكبوش كيري)، لتمَنحنا الأغنية تاريخ ميلاد جديد، وتقطع لنا تذكرة ذهاب (درجة أولى) لوطن الجمال، حينها نتمرد على رتابة الليالي في المنافي والرحول، لتكسو كل الحكاوِي سمر الليل، رغم بؤس الحرب، وننصب فخاخاً مُحكمة للحظات فرحٍ شاردات، لإيماننا القاطع بأن الحياة أنثى تعشق من يغازلها متناسياً زلّاتها.
إذاً هي مسيرة كعذوبة النيل، وطعم(العجوة)، موغل في الورافة من عمق التاريخ، ونقوش على (خاصرة الجمال)، لمبدع لطالما أرّقه غياب(النور) في وطن القصيد، ليقف طويلا بجلباب مقصّب للنُبل، ناثراً الاستنارة بأدب ثوري رصين، لم يهادن رغم ضراوة الظلم والظلام، ليصنع لنا تجربة فنية بعظيم القيم الإنسانية والجمالية الراسخة، خُلقت لتحيا وتنال صك المحبة على امتداد الأجيال.
