
الدار البيضاء «afroshongir»:
في أمسية مغربية خالصة تفيض بالأنغام والرموز التراثية، أحيت جمعية تراثيات المغرب، مؤخراً، في قاعة «لامارتين» بالدار البيضاء، احتفاليةً استثنائية جمعت بين عبق الماضي وروح الحاضر، لتجعل من التراث المغربي جسراً حيّاً يصل الأجيال بموروثها الثقافي والروحي.
منذ اللحظة الأولى، استقبلت الجمعية ضيوفها بما يعكس أصالة الكرم المغربي: تمرٌ وحليب، ورائحة البخور تعبق في الأجواء، بينما صدحت أهازيج فرقة جذور كناوة للفن الأصيل بإيقاعاتها الساحرة التي تلامس الوجدان وتستحضر عمق التاريخ. ومع كل نغمة من «القراقب» وكل إيقاع من «الطمبلة»، كان الحضور يعيش لحظة من السحر الروحي الذي لطالما ميّز موسيقى كناوة، أحد أهم رموز الهوية المغربية المتجذرة في العمق الإفريقي والأندلسي معاً.
رحلة في الذاكرة الشعبية:
تحولت الأمسية إلى ما يشبه رحلة في الزمن، تفتح بوابات التاريخ المغربي على مصراعيها. كانت الألوان والأصوات والروائح تتداخل في مشهد متكامل يرسم ملامح الهوية الوطنية، ويذكّر بأن التراث ليس مجرد فولكلور، بل ذاكرة حية تحفظها الأجيال وتتناقلها بمحبة وفخر.
في أجواء احتفالية يغمرها الدفء الإنساني، جلس الحضور في حالة من الاندماج التام مع نغمات الكناوة التي حملت في طياتها قصص الأجداد، وأناشيد الحرفيين، وهمسات الأسواق القديمة، وصدى المآذن التي تزين المدن العتيقة من فاس إلى مراكش والصويرة.
أهازيج تحكي عن الجذور:
قدّمت فرقة جذور كناوة للفن الأصيل باقة من العروض التي تنوعت بين الموروث الكناوي الأصيل واللمسات الإبداعية الحديثة، فكانت بمثابة لوحة موسيقية تجمع بين الماضي والحاضر. تلك الأصوات المترنمة بالإيقاع الإفريقي والروح الصوفية المغربية لم تكن مجرد أداء فني، بل حكاية تنبض بالحياة، تؤكد أن الفن الشعبي المغربي ما زال قادراً على التجدد دون أن يفقد أصالته، وقال أحد الحضور لـ«afroshongir»: «ما شهدناه الليلة ليس عرضاً فنياً بقدر ما هو احتفاء بالهوية، كأننا دخلنا إلى قلب الذاكرة المغربية التي لا تزال تنبض بالحياة”.
هوية مغربية لا تعرف الانطفاء:
تميزت الأمسية بحضور شخصيات من مختلف المجالات الثقافية والفنية والاجتماعية، ما عكس المكانة التي أصبحت تحتلها جمعية تراثيات المغرب في المشهد الثقافي الوطني. الجمعية، التي تأسست بهدف صون التراث المادي واللامادي، تعمل منذ سنوات على إحياء العادات والتقاليد المغربية الأصيلة عبر فعاليات تدمج الفن بالثقافة بالهوية، وتعيد الاعتبار للموروث الشعبي باعتباره ركيزة من ركائز الوحدة الوطنية.
في كلمتها الافتتاحية، أكدت رئيسة الجمعية أن الحفاظ على التراث ليس ترفاً ثقافياً، بل ضرورة حضارية، مشددة على أن «التراث هو نبض الحياة وروح الانتماء التي نحيا بها بكل فخر واعتزاز». وأضافت: «إن استقبال الضيف في ثقافتنا ليس مجرد عادة، بل فنّ وحكاية تُروى بالأهازيج والأنغام”.
لامارتين… فضاء يحتضن الإبداع
اختيار قاعة «لامارتين» لم يكن اعتباطياً؛ فالفضاء الثقافي المعروف بعمقه الفني وتاريخه في احتضان المبادرات الثقافية الراقية، شكل مسرحاً مثالياً لهذا الحدث. بديكورٍ مستوحى من العمارة المغربية التقليدية، وأضواءٍ خافتة تبرز جمال الأزياء التراثية، تحولت القاعة إلى لوحة فنية متكاملة تجسّد روح المغرب المتنوعة بين الأطلس والصحراء والساحل.
بين الماضي والحاضر… خيط من انتماء
لم تكن الأمسية مجرد مناسبة احتفالية، بل لحظة تأمل جماعي في معنى الهوية والانتماء. عبر كل مقطع موسيقي وكل حركة فنية، بدا واضحاً أن التراث المغربي قادر على أن يكون جسراً للتواصل بين الأجيال، وأنه لا يزال مصدر إلهام للمبدعين الذين يسعون إلى صوغ مستقبل متجذر في الأصالة.
وفي ختام الأمسية، عبّر الحضور عن إعجابهم العميق بما قدمته الجمعية من عمل متقن يليق بمكانة التراث المغربي. البعض وصف الحدث بأنه «رحلة في الذاكرة»، وآخرون رأوه «احتفالاً بالهوية في أبهى تجلياتها»، لكن الجميع أجمع على أن المغرب، بكل تنوعه الثقافي والفني، يظل منارةً تضيء بتراثها الدرب نحو المستقبل.
تراث حي… ورسالة للمستقبل
بأهازيج كناوة التي تُنهي الليلة على إيقاعها المميز، غادر الحضور قاعة «لامارتين» وهم يحملون معهم شيئاً من عبق التراث ودفء اللقاء. لقد جسدت الأمسية مقولة أن «التراث ليس ما كان، بل ما يبقى فينا»، وأن الجمعيات الثقافية مثل تراثيات المغرب تلعب دوراً محورياً في صون هذه الذاكرة الجماعية التي تصنع هوية الأمة وتربط حاضرها بماضيها المجيد.
وفي السياق؛ تتقدم جمعية تراثيات المغرب بخالص الشكر والامتنان للفنان التشكيلي الأستاذ عبد العزيز اليامودي، الذي أضفى على قاعة العرض بريقاً وذوقاً رفيعاً؛ بلمسات لوحاته الفنية الرائعة، بلوحات معبرة، أبدع في تنسيق ألوانها بريشته الذهبية، مما أضفى على المكان جمالية عالية وروحاً فنية نابضة.













